ماء الانكسار
سلوى عباس
في اللحظة التي دخلتُ فيها مركز الإيواء، وقد مرّت ثلاثة أسابيع على الكارثة، كان صدى من صقيع يلفّني، حيث أخرجت المدينة نبضها الميت ورمتهُ في وجهي، لم أرتعد حينها وتمالكتُ نفسي، لأنه ليس وقت الخوف، فإذا كانت قلوبنا موجوعة كيف لعقولنا أن تهتدي؟ وإذا كان عقلنا مشتّتاً كيف ترتاح قلوبنا، وفي آخر النهار ينامُ الكون كله ويبقى شيء واحد مستيقظاً هو واقعنا الموحش، مع أنه الوحيد الذي نريده أن يغفو، لكنه يعاند ويبقى مستيقظاً، فهل أكثر من ذلك تناقض نعيشه مع واقعنا ومع أنفسنا، والذي نريد أن نعيشه يبقى حلماً، وأمام كلّ الدمار المحيط بنا تبقى أعمارنا موحشة إن لم يكللها الحب؟
موحشة حتى الأماكن والذكريات يوم نمرّ بها وفي أرواحنا يستوطن الحزن والوجع، هذا الوجع الذي يتدفق من عيون أمهات وأطفال أرّقهم القهر والألم، يعيشون في ظروف لا تليق بإنسانيتهم رغم كلّ الجهود التي يبذلها المتطوعون لتأمين احتياجاتهم، ووجعهم هذا تنتقل عدواه إلى مسامي وخفقات قلبي، فتنبضُ بهم وتهتف لهم وتحتويهم بحنان يتفجّر من كلّ ذرة في كياني لأقول لهم إنني معهم، وأسعى أن أخفّف عنهم بعض وجعهم، وأصواتهم المنبعثة من كلّ مكان تملأ الأماكن ضجيجاً وصخباً يفجّر الصمت، يسكت الملل ويتدفق هادراً يحكي صداه في المسامع والآذان، وللأسف لا تستطيع كلماتي مهما استفاضت واسترسلت أن تقول وتنقل لون المشاعر التي انتابتني في تلك اللحظة، إنها مشاعر انبعثت من خصوصية حكايتي التي جمعتني بهؤلاء الناس الذين لا تزال تساؤلات عيونهم حول مصيرهم تؤرّق روحي!
أعودُ من مهمتي الشاقة وأجلس إلى طاولتي أغمس أصابعي في قلبي الراجف، وأكتب عن ضراوة الحالة واعتلال أزمنتي بين يقظتي والصباح، بين أحلامي والانتظار، لا شيء يسبغ على دمي قوانين السكينة، سيلٌ من مشاعري داهمني من تداعيات الكارثة، شيء لا اكتناه له ولا أعرف في القواميس له اسماً، فأجمعُ بوحي في كفي حفنة من ماء الانكسار ينسربُ من بين أصابع القلب كما الضوء يشعّ راشحاً في الأرض، إلى أن أفتح كفي على ظلامٍ، فأرمي بستار من خيبة الرماد على قمر يرعى مروجي، تتملكني براثن سكينة تخمد عنبر الروح. أعيد ترتيب حروفي في صناديق كالتوابيت أزجيها لموج من صفرة البحر عساها أن تضيع على جزيرة أمان لا أعرفها، عسى أن تلقى معانيها وراء المحيطات وبحار الظلمات، فعندما ترتفع أصوات من غابوا في وجداني ولا ألقى إلا الصدى، أنكفئ على نفسي مهزومة في واقع موحش أسعى لأن أتأقلم معه، فأرى نفسي أنظر في مرآة متشظية لا تعكس إلا روحي التي هشّمتها حياة جرجرتنا جميعاً في متاهاتها وأفقدتنا إنسانيتنا بلهاثنا وراء لحظة هاربة من عمرنا للإمساك بها دون جدوى، فنرى أننا من العدم أتينا وإليه نعود ويدنا مطبقة على غبار، فكم علينا أن نعيش من سنين وأعمار ودهور؟ وكم ينبغي أن نخوض من التجارب قد توصلنا لحافة الموت، لندرك أننا لم نزل أحياء وينتهي هذا الكابوس الرازح على قلوبنا، حيث كلّ يوم قصة وحكاية مفجعة يرويها ناجٍ من هذه الكارثة التي أرّقتنا جميعاً وأبقت عيوننا مفتوحة على الوجع.