دراساتصحيفة البعث

عندما يتحدث ماكرون عن ازدواجية المعايير

ريا خوري 

لم يغب يوماً عن العالم أن الغرب الأوروبي الأمريكي يمارس ازدواجية المعايير، والكيل بمكيالين. فبعد المواقف التي اتخذها الغرب مؤخراً تجاه الحرب الروسية- الأوكرانية، وبالمقارنة مع مواقفهم التاريخية الماضية نحو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، يكون بذلك قد أزيح الستار عن الوجه القبيح الحقيقي لهم.

الجديد في الأمر ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من حيث أراد أن يهاجم روسيا، ويحمّلها كل خطايا ومظالم النظام العالمي، اعترف  قبل أيام أمام مؤتمر ميونخ للأمن بفقدان دول الغرب الأوروبي- الأمريكي ثقة الجنوب العالمي.

ربما لا يقرّ كثيرون في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بما قاله ماكرون عن ازدواجية المعايير الغربية، وربما لا يشاطره زعماء وقادة الغرب الأمريكي الأوروبي وسياسيوه القلق من تسبّب ذلك في تبدّد ثقة دول جنوب الكرة الأرضية بالأسس التي يقوم عليها تعاطي الدول الكبرى مع نظيرتها من الدول النامية في أكثر من مجال وأكثر من منعطف.

لقد كان الهدف من بوح الرئيس الفرنسي ماكرون بهذا القلق أمام مؤتمر ميونخ للأمن العالمي، والاستفاضة في عرض مبرّرات غياب التوازن العالمي والكيل بمكيالين، هو أن يخلص في النهاية إلى نتيجة مهمة مفادها عدم التزام أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي بالقواعد والضوابط المرسومة، قاصداً بالطبع روسيا.

ففي موضوع فقدان الثقة، وغياب التوازن، وهو أمر غير مفاجئ على الإطلاق، لأنّه مستقر منذ زمنٍ بعيد في يقين الدول النامية في جنوب الكرة الأرضية، لم يجد الرئيس الفرنسي ماكرون  في ذاكرته أقرب من تفشي وباء كورونا للتدليل على فهمه للأمر وصوابية اعترافه بما جرى.

قال الرئيس الفرنسي ماكرون في المؤتمر: “إنّ عدداً كبيراً من الدول النامية لم تحصل على الموارد المالية التي وعد بها الغرب الأوروبي- الأمريكي لتجاوز آثار الجائحة والتعافي الاقتصادي الذي شهد حالة من الركود، وأنّ الدول الغربية تقدم أموالاً طائلة لأوكرانيا”، والغاية من ذلك أن يقول: إن روسيا هي السبب في شروع الغرب الأوروبي- الأمريكي باستخدام ازدواجية المعايير أو الكيل بمكيالين على الرغم من أنّ الباحث عن أسباب تسبق هذا الصراع وذلك النزاع الساخن وملحقاته، لا يمكن تعدادها.

وعلى الرغم من إحالات مصطلح دول جنوب العالم، أو الجنوب العالمي، أو دول جنوب الكرة الأرضية المرتبطة أساساً في دراسات ما بعد الاستعمار الكولونيالي الفرانكوفوني بالفقر، وتردي الأوضاع إلى درجة سيئة جداً في مواجهة الشمال الغني المتقدم والمتطوّر تكنولوجياً، فإنّ الرئيس ماكرون اكتشف فجأة أولوية تعزيز التضامن، والحاجة الملحّة إلى تنظيم مؤتمر في العاصمة الفرنسية باريس في شهر حزيران القادم لهذه الغاية.

إنّ اعترافات ماكرون تزامنت مع انضمام إيستر لين، الأمينة العامة للكونفيدرالية الأوروبية للنقابات، وأدّت إلى تظاهرات الاتحاد العام للشغل في تونس ومخاطبتها المتظاهرين التونسيين بالقول: “نقول للحكومات المتعاقبة في تونس، ارفعوا أيديكم عن نقاباتنا العمالية، حرّروا قادتنا وزعماءنا. أتيت هنا لإيصال صوت تضامن نحو خمسة وأربعون مليون نقابي ونقابية من أوروبا”.

وفي سياق الحديث عن ازدواجية المعايير أو الكيل بمكيالين التي اعترف بها الرئيس الفرنسي ماكرون، ألم تكن ساحات الاعتراض الفرنسية على مشروع إصلاح نظام التقاعد في فرنسا أقرب إلى المسؤولة الأوروبية التي أمر الرئيس التونسي قيس سعيّد في النهاية بطردها؟. أليست النقابات العمالية والجمعيات، ومنظمات المجتمع المدني وقوى المعارضة الفرنسية أولى بدعم إيستر لين الأمينة العامة للكونفيدرالية الأوروبية للنقابات؟.

ذلك وغيره من صور ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين تزخر بها ملفات العلاقات بين دول جنوب العالم وشماله التي لم يدركها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلا حين أراد التأسيس عليها والاستناد إلى هوامشها لمهاجمة روسيا، وهو أيضاً ملف يختزن فيه كل أساليب وطرق الكيل بمكيالين والمكتنز باختلال المعايير وازدواجيتها.