الأطراف المصغرة.. هندسةٌ متغيرةٌ في النظام الدوليّ
الدكتور سومر منير صالح
لأنّ المقاربة تسبق الفعل في السياسة، والاستجابة السياسية تكون على قدر الإدراك المعرفيّ، كان لابدّ من فهم التغيرات المعرفية الحديثة في حقل العلاقات الدولية، وذلك لفهمٍ أعمق للمتغيرات الحاصلة في العالم، فقد أدى ركود الهياكل السياسية الرسمية للمنظمات “متعددة الأطراف” إلى تحول القوى إلى صيغ “الأطراف المصغرة” (Minilateralism)، بدلاً من “تعددية الأطراف”، كما مهّدت الطبيعة المتغيرة للتهديدات المعاصرة الطريق لمنصاتٍ مصغرةٍ غير رسميةٍ أصغر حجمًا وحصريةً ومرونة وعملية في عالمٍ تقوده التكنولوجيا.
تاريخياً، وتحت تأثير أفكار النظرية الاعتمادية في العلاقات الدولية تم إنشاء العديد من المؤسسات المتعددة الأطراف منذ الحرب العالمية الثانية لإضفاء الطابع الرسميّ على المعايير العالمية والحفاظ على شعورٍ معيٍن بإمكانية التنبؤ في مسار النظام الدوليّ، لكن سرعان ما ظهرت “معضلة الاعتماد المتبادل” في عالمٍ مثّلت فيه الدول القومية الوحدة الأساسية للتنظيم السياسيّ، فمع استمرار سيادة الدول وتكرار تحول القوى المعقد، بدأ التفاؤل الأوليّ في حوكمةٍ عالميةٍ للعلاقات الدولية يتناقص، وبلغ ذروته مع رفض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب النظام متعدد الأطراف القائم على القواعد، والانسحاب من أغلب الاتفاقيات متعددة الأطراف “منظمة الصحة العالمية، اتفاق باريس للمناخ.” الذي يمكن عدّه تحولا ًجديداً في النظام الدولي، عززه إرهاصاتٌ “مبدئيةٌ” لظهور نظامٍ عالميّ متعدد الأقطاب، كما أنّ التوازن المتغير لديناميكيات القوى على المستويين الإقليمي والعالمي أثر بدوره على الأداء الفعال للمؤسسات الكبرى متعددة الأطراف، لذلك دفعت مقاربات عدم فعالية الهيئات متعددة الأطراف الرسمية في التعامل مع التحديات الإقليمية الدول المؤثرة للبحث عن بدائل وفي مقدمها “الأطراف المصغرة Minilateralism”، فالمفاوضات متعددة الأطراف وواسعة النطاق توقفت عن تحقيق نتائج منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، إذ كانت أحدث مبادرةٍ متعددة الأطراف أقرهّا بنجاح عددٌ كبيرٌ من البلدان في عام 2000، عندما وقعت 192 دولة على إعلان الأمم المتحدة بشأن الألفية، وهو عبارةٌ عن مجموعةٍ طموحةٍ من ثمانية أهداف تتراوح من خفض الفقر المدقع في العالم إلى النصف إلى وقف انتشار فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز بحلول عام 2015. لذلك قد أصبح من الصعب الاستمرار في الاعتماد على تعددية الأطراف في القضايا الدفاعية والأمنية، كما شكّل التباطؤ المحرز في اجتماعات ومفاوضات الحوكمة العالمية، دافعاً للنزعة المصغرة وبديلاً للتعددية. وحلاً فعالاً لتناقض المصالح المتعددة بين أعضاء متعدي المصالح، ناهيك عن التسييس الجيوسياسي للأزمات، ومع إعلان الولايات المتحدة استراتيجيتها للعودة إلى الأحادية القطبية تحت مسمى “”America is back at the table””، مثّلت رؤية الأطراف المصغرة “Minilateralism” خياراً أميركياً لمحاولة تجديد هيمنتها على النظام الدولي وتقويض فكرة تعددية الأقطاب الدولية، كما مثّلت اتجاهاً عاماً في السياسة الخارجية الأميركية منذ النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، على الرغم من أنّ التعاون المصغّر بين الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها بدأ في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلاّ أنّ أواخر عام 2010 شهد ظهور أشكالٍ أكثر مؤسسيةً وتوجهاً استراتيجيًا من التعاون الأمني المصغر في الظهور من محركين رئيسيين: صعود الصين كقطبٍ محتملٍ وعدم وجود نظام إقليميٍّ فعالٍ يمتلك آلياتٍ أمنيةٍ للاستجابة لهذا التحدي، كما مثّلت الحرب الأوكرانية “2022” رافعةً لهذا الاتجاه في السياسات الأوربية البينية والخارجية.
يُعرِّف هذا المقال الأطراف المصغرة “Minilateralism” على أنّها مجموعةٌ رسميةٌ أو غير رسميةٍ من ثلاث إلى خمس دول تهدف إلى تنسيق أجنداتها الاستراتيجية وتسهيل التعاون الوظيفي في مجالات قضايا معينة. من خلال تحالفاتٍ أصغر تركز على تلبية الاحتياجات الخاصة للشركاء ذوي التفكير المماثل، ويعزو المحللون الاتجاه الحالي نحو الأطراف المصغرة إلى الفشل في كثير من الحالات -في بناء الإجماع داخل المؤسسات الإقليمية والمتعددة الأطراف التقليدية، فالأطراف المصغرة في جوهرها، هيّ تعبيرٌ عن الهندسة المتغيرة المستخدمة في العلاقات الدولية من قبل الدول المؤثرة في النظام الدولي-“تتكون من جمع أصغر عددٍ من البلدان اللازمة لإحداث تغييرٍ كبيرٍ في الطريقة التي يتعامل بها العالم مع قضيةٍ معينة.
وهنا لابدّ من التمييز بين فكرة تعددية الأطراف وبين فكرة تعددية الأقطاب، فالأولى تشير إلى حوكمة العلاقات الدولية، وهيّ استجابةٌ حديثةٌ لمرحلة ما بعد الحربين العالمين، أمّا تعددية الأقطاب فتشير إلى وجود أكثر من قطبٍ في النظام الدوليّ، “دولة قطب، تجمع إقليمي قطب…”، بذات الوقت هنالك فرقٌ آخرٌ مهم، فتعددية الأطراف هيّ تفضيل المعايير على القوة في السياسات الدولية، بعكس الثانية التي تقوم على توازن القوة.
في الواقع، هناك إدراكٌ متزايد بأنّ هذه التجمعات الصغيرة المنخرطة في عدد من المجالات الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية هيّ أفضل من الاعتماد على منظمةٍ إقليميةٍ واحدةٍ مجزأةٍ لا تقدم سوى القليل من الخيارات والحلول في التعامل مع التحديات الإقليمية، ومن السمات المميزة لصيغ الأطراف المصغرة “Minilateralism” هيّ الأطر المرنة والمخصصة التي تختلف عضويتها بناءً على المصالح الظرفية أو القيم المشتركة أو القدرات ذات الصلة، وهي غالباً إقليميةٌ وليست عالمية، طوعيةٌ وليست ملزمة قانونًا، متخصصة وليست شاملة؛ وقد أضفى الطابع غير الرسميّ “غير التعاهدي” مستوىً من المرونة لا تتمتع به الاتفاقيات الرسمية الأخرى الأكثر تنظيماً، بمعنى أنّ لديها نهجًا مستهدفًا لمواجهة تحدياتٍ محددةٍ وأنّها لا تلتزم بالعمليات المؤسسية التي يتم بناؤها حول القواعد والمفاوضات المطولة، هذا الغموض مفيدٌ بمعنى أنّ “الأهداف العامة واللغة الغامضة توفر مساحةً للمناورة بين الأعضاء الذين لا يمكنهم الاتفاق على الإجراءات المناسبة ربما علناً، حتى لو كان هناك إجماعٌ على المصالح “المعقولة”، وميزةٌ أخرى للأطراف المصغرة هيّ تقسيم المشاكل إلى أبعادٍ محددةٍ بدلاً من معالجة الصندوق الموسع والشامل للقضايا العالمية في وقت واحد.
لقد شكّل رفض الصين لحكم هيئة التحكيم في بحر الصين الجنوبي في حزيران 2016 حافزاً خاصاً لصيغ لـ” الأطراف المصغرة ” في منطقة المحيطين الهندي والهادئ والتي لقيت استحسانًا بين العديد من القوى المهمة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ويرجع ذلك أساسًا إلى مسألة استدامة نظام التحالف الأمريكي في إدارة التحديات الأمنية في المنطقة بنظر تلك الأطراف، لذلك اعتمدت الولايات المتحدة على شبكتها الثنائية من التحالفات لتشكيل البنية الأمنية الجديدة في آسيا، في الوقت الذي تسعى فيه دول منطقة المحيطين الهندي والهادئ إلى إدارة التحديات التي تفرضها قوة الصين المتزايدة، فإنّها تعتمد بشكلٍ متزايد على “الأطراف المصغرة مع واشنطن” وتشدد على الردع للحفاظ على السلام الإقليميّ.
هذا ويعدّ تحالفي اوكوس وغواد تطبيقاً واقعياً على رؤية الأطراف المصغرة وهما ضمن تحالف العيون الخمس “the Five Eyes Intelligence Alliance” والذي يعدّ بدوره ضمن صيغ الأطراف المصغرة في مجال الاستخبارات، يضم هذا التحالف كلّ من أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وهو تحالفٌ استخباراتيّ تعاونيّ يراقب الاتصالات الإلكترونية للمواطنين والحكومات الأجنبية، تم توسعة هذا التحالف ليصبح “5+3” يشمل دول تحالف العيون الخمس إلى جانب فرنسا وألمانيا واليابان تم تشكيل التحالف في أوائل عام 2018 كرد فعل على التهديدات المشتركة من الأنشطة الروسية والصينية.
التحالف الأول “أوكوس “AUKUS alliance” ” هو اتفاقيةٌ أمنيةٌ ثلاثيةٌ بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، ستساعد فيها الولايات المتحدة وبريطانيا الجانب الأسترالي في تطوير ونشر غواصات تعمل بالطاقة النووية، إضافةً إلى تعزيز الوجود العسكري الغربيّ في منطقة المحيط الهادئ، و”غواد، The Indo-Pacific Quadrilateral Dialogue” هو صيغةٌ دبلوماسيةٌ استراتيجيةٌ تضم أستراليا واليابان والهند مع الولايات المتحدة تهدف لجعل منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرةً ومفتوحةً، وتشكيل جبهةٍ موحدةٍ أمام تنامي النفوذ الصينيّ…
إضافةً إلى هذين التحالفين، تسعى أيضاً واشنطن لضم مجموعة “6+” والتي تضم كلًّ من الفيتنام وسنغافورة وفرنسا وبريطانيا لسلسلة التحالفات الأميركية في منطقة الهندي –الهادئ، والعمل جارٍ على صيغ مماثلة مع اليابان أيضاً.
وبناء على ما تقدم، تمثّل صيغة الأطراف المصغرة نهجاً أميركياً وغربياً جديداً في السياسات الدولية، يمثّل تراجعاً عن مبدأ الحوكمة وعودةً إلى مبدأ القوة، يهدف إلى ضمان مركزية الولايات المتحدة في تحديد جدول الأعمال الدولي، ومنع روسيا والصين من الاستفراد بمنطقةٍ جيوسياسيةٍ معينة، وتقييد خيارات الدول التي تتعامل مع القوتين الدوليتين بما في ذلك الاتحاد الأوربي، إضافة إلى تقويض فكرة التكتلات “عبر الإقليمية”، ولكنّها لم تصل بعد لمرحلة الإلغاء الكلي للنظام متعدد الأطراف، وفي منطقة الشرق الأوسط بدأنا نرى تطبيقاتٍ فعليةٍ لرؤية الأطراف المصغرة، والتي بدأت تتزايد بعد العام 2020.