أمريكا تتجسس على العالم
عناية ناصر
إن السعي لتحقيق السلام والأمن والتنمية هو رغبة مشتركة للبشرية، لكن لسوء الحظ، يجب الاعتراف بأن الفضاء السيبراني العالمي لا يزال يواجه تحديات وتهديدات خطيرة، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى الولايات المتحدة القوة المهيمنة المارقة غير المسؤولة.
من ناحية، تواصل الولايات المتحدة استغلال مزاياها التكنولوجية لتنفيذ مراقبة شاملة غير مقيدة وغير خاضعة للرقابة ولا حدود لها في جميع أنحاء العالم. وهي تتحدث من ناحية أخرى، بنفاق عما يُسمّى بالنظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد، وتشوّه الحقائق، وتحاول تقسيم الفضاء السيبراني العالمي باسم بناء نظام جديد قائم على القيم المشتركة، كما أنها تسمّم بل وحتى تعيق التعاون البراغماتي البناء، وتعيد الفضاء الإلكتروني العالمي إلى عصر الأدغال الرقمية التي تحتكرها القوة المهيمنة وعصاباتها.
المراقبة الشاملة للولايات المتحدة
من الناحية الموضوعية، يمكن للغالبية العظمى من اللاعبين الدوليين فهم واستيعاب أمن الفضاء الإلكتروني العالمي، وتنميته وتطويره من خلال موقف عملي وعقلاني وموضوعي وبنّاء. ولا يتوقع الناس ظهور مدينة فاضلة رقمية على الفور، ولكن في الوقت نفسه يأملون بصدق أن تتمكّن الجهات الفاعلة الدولية من العمل معاً نحو بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك في الفضاء الإلكتروني، وبذل كلّ جهد ممكن لتمكين ثورة إنجازات تكنولوجيا المعلومات من نفع البشرية والعمل لأجلها قدر الإمكان، والاستكشاف والسعي المشترك لنماذج ومسارات التنمية المستدامة، لجعل الغد أفضل مما هو عليه اليوم.
ومع ذلك، بالنسبة للقوة المهيمنة، كانت ثورة تكنولوجيا المعلومات منذ بدايتها أداة لاكتساب وتعزيز وتدعيم مزاياها المهيمنة. واستناداً إلى مفهوم أمني أحادي يتمحور حول الذات بشكل مطلق، أنشأت الولايات المتحدة مجموعة من المعايير الأمنية المطلقة التي تأتي على حساب المخاوف الأمنية المعقولة والمنطقية للدول الأخرى وحتى المصالح الأساسية. تحاول الدولة المهيمنة الحصول على حرية عمل أحادية وغير مقيدة وحتى مطلقة في الفضاء السيبراني العالمي من خلال استخدام وسائل وأساليب مختلفة بشكل شامل، مع الضغط من جانب واحد على الحقوق المشروعة للدول الأخرى، بما في ذلك حلفاؤها المخلصون.
فيما يتعلق بممارسات الفضاء الإلكتروني، فإن أبرزها هي المراقبة الشاملة للولايات المتحدة، والتي كانت تتطور منذ الحرب الباردة إلى يومنا هذا في الفضاء الإلكتروني العالمي دون حدود أو خطوط أساسية. بمعنى، أن الهدف الذي تسعى إليه مثل هذه الإجراءات الأمريكية هو تحويل الفضاء السيبراني العالمي إلى ما سمّاه العالم الغربي ميشيل فوكو “سجن بانوبتيكون”، حيث يصبح أفراد وأقسام معينة من القوة المهيمنة “حراساً أو مراقبين” في سجن البانوبتيكون الرقمي هذا، الذي يمكنه استخدام القوة المطلقة تقريباً بحرية لمراقبة سلوكيات أية كيانات يريدون التجسّس عليها، ولا يمكن لأحد الهروب.
تعتبر تصرفات الولايات المتحدة أعمالاً شريرة رقمية بلا حدود أو خطوط أساسية، حيث توجد أمثلة كثيرة توضح أن إجراءات المراقبة التي تقوم بها في الفضاء الإلكتروني العالمي تتجاوز بكثير المتطلبات العادية للأمن القومي، ووصلوا في بعض الحالات إلى مستوى ينذر بالخطر. ففي تجاهل للآداب الدبلوماسية وكرامة الحلفاء، قامت الولايات المتحدة بمراقبة رؤساء الدول وقادة حلفائها والمنظمات الدولية بشكل صارخ، دون إظهار أي ندم!.
تعتبر دول مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان حلفاء سياسيين وعسكريين واقتصاديين مهمين تفتخر بهم الولايات المتحدة في كثير من الأحيان. ومع ذلك، أظهرت الوثائق السرية التي كشف عنها موقع “ويكيليكس” أن الحلفاء المخلصين حتى لا يمكنهم الهروب من المراقبة الأمريكية. وفي هذا الإطار، تمّ التنصت على اجتماع بين ميركل والرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي مع رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني من خلال عملية مراقبة نفذت في تشرين الأول 2011، كما تمّ التنصت على اجتماع عام 2008 بين الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك بان كي مون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بشأن تغيّر المناخ.
الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنه في كلّ مرة يتمّ الكشف عن مثل هذه الأخبار، يكون ردّ السياسيين الأمريكيين، وحتى وسائل الإعلام الرئيسية، هو أنه “يثبت أن وكالات الاستخبارات الأمريكية تفعل ما يفترض أن تفعله”. ويشير المراقبون إلى أن المراقبة تعكس رغبة الولايات المتحدة المعتادة في “السيطرة” و”الغطرسة لفعل ما يريدون”، فضلاً عن عدم الحديث وصعوبة إخفاء “عدم الثقة العميق في الحلفاء”.
تطبق الولايات المتحدة معايير مزدوجة بلا خجل، مما يجعل مراقبة الاتصالات التجارية السرية مكوناً ضرورياً لما يُسمّى “التجارة العادلة”، دون أي إحساس بأخلاقيات العمل. فخلال الحرب الباردة، أنشأت الولايات المتحدة وشركاؤها في تحالف “العيون الخمس” نظام تجسس عالمياً عبر نظام يُعرف باسم “إيكيلون”. كان الهدف الأولي من هذا النظام خدمة احتياجات جمع المعلومات الاستخباراتية ضد بلدان في الكتلة الشرقية خلال الحرب الباردة. كما كشفت التقارير أن الولايات المتحدة استخدمته للتجسّس على الشركات والصناعات أيضاً، حيث جمعت معلومات حساسة عن الشركات الأوروبية، ثم سلّمتها إلى المنافسين الأمريكيين حتى يتمكنوا من الحصول على مزايا اقتصادية.
التنمر الإلكتروني
تراقب الولايات المتحدة مستخدمي الإنترنت العاديين دون قيود، وتتطفل وتجمع قدراً هائلاً من المعلومات الشخصية دون أي قيمة استخباراتية، وغالباً ما تذكر حكومة الولايات المتحدة حقوق الإنسان وحماية الخصوصية كمبرّر وأساس قيم لهجماتها التعسفية على الدول والحكومات الأخرى. ومع ذلك، بعد أن كشف إدوارد سنودن في عام 2013 أن وكالة الأمن القومي تستخدم برنامج التجسّس الرقمي “بريسم” لإجراء مراقبة عالمية، حتى وسائل الإعلام الغربية السائدة مثل “واشنطن بوست” اضطرت إلى الاعتراف بشكل محرج بأن 90 في المائة من أولئك الذين تراقبهم وكالة الأمن القومي هم من مستخدمي الإنترنت العاديين، بدلاً من أولئك الذين شكلوا تهديداً للأمن القومي للولايات المتحدة. ووفقاً لصحيفة “واشنطن بوست”، بعد مراجعة الرسائل والوثائق، وجد أن معظمها “عديم الفائدة من قبل المحللين، ولكن مع ذلك تمّ الاحتفاظ بها، كونها تتمتع بجودة تجسّس مذهلة”.
لم يستخدم الرئيس باراك أوباما ولا حلفاؤه مثل دونالد ترامب وجو بايدن المعايير العالية والمتطلبات الصارمة التي تستخدمها الولايات المتحدة دائماً في التعامل مع أوضاع حقوق الإنسان في البلدان الأخرى لإجراء تعديلات وتغييرات فعالة، ولجأوا بدلاً من ذلك إلى السفسطة، أو أنكروا بشدة، أو تظاهروا بأنهم لا يعرفون ما حدث أو كأن شيئاً لم يحدث!.
على حساب إضعاف أساس الثقة للأنشطة التجارية بشكل مباشر، تشارك الولايات المتحدة في إجراءات تلوث سلسلة التوريد النادرة للغاية، ففي 11 شباط 2020، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تحقيقاً استقصائياً معمقاً بعنوان “انقلاب القرن الاستخباراتي”، كشف أنه على مدار أكثر من نصف قرن، قامت وكالة المخابرات المركزية، وجهاز المخابرات الألماني الغربي بالسيطرة على شركة “كريبتو أيه جي” السويسرية المتخصّصة في إنتاج الأجهزة المستخدمة في تشفير الاتصالات السرية، الأمر الذي مكّنهم من التجسّس والحصول على كنوز من المعلومات السرية، والوصول إلى المراسلات التي يعتقد العملاء أنها آمنة. وكانت أكثر من 120 دولة بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة قد اشتروا هذه الأجهزة بهدف تشفير اتصالاتهم. لكن لم يكن لدى هؤلاء العملاء يقظة أو تدابير وقائية ضد الأجهزة التي تبيعها الولايات المتحدة، ولم يتوقعوا أن الولايات المتحدة لن تستهدف حلفاءها فحسب، بل تجرأت أيضاً على تبني إجراءات تلوث سلسلة التوريد التي سيكون لها تأثير سلبي على بيئة الصناعة بأكملها.
والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو الموقف المخزي للنخب الأمريكية تجاه مثل هذا السلوك المارق، ففي هذا الإطار كتب مدير وكالة المخابرات المركزية السابق جيمس وولسي في 17 آذار عام 2000، مقالاً في صحيفة “وول ستريت جورنال” بعنوان “لماذا نتجسس على حلفائنا”، أشار فيه بمنطق نرجسي أمريكي متطرف إلى أن مراقبة الحلفاء شرط مسبق ضروري لضمان فرص “التجارة العادلة” للشركات الأمريكية، لأن الشركات الأوروبية “ترشي” و”أكثر فساداً”.
من الواضح أن الولايات المتحدة أصبحت المسبّب والمثير الرئيسي للمشكلات فيما يتعلق بأمن واستقرار وتطوير الفضاء الإلكتروني على مستوى العالم. إن تحمل الولايات المتحدة للمراقبة الشاملة غير المقيدة وغير الخاضعة للرقابة وبدون حدود لا يضرّ فقط بمصالح الضحايا، بل يضرّ أيضاً بالتنمية طويلة الأجل للفضاء الإلكتروني العالمي. وبوصفهم من الضحايا الرئيسيين، يجب على حلفاء الولايات المتحدة أن يظهروا شجاعة حقيقية لوضع التعددية القائمة على القواعد والقانون الدولي في الممارسة، وأن يقولوا “لا” للتنمر الإلكتروني.
يجب عليهم اتخاذ إجراءات ملموسة لمواجهة هذا السلوك السلبي الذي يهدّد الفضاء الإلكتروني العالمي، كما يجب عليهم جنباً إلى جنب مع جميع الكيانات المسؤولة اتخاذ خطوة قوية نحو بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك في الفضاء السيبراني يمكن أن يفيد البشرية جمعاء.