“..إلّا إليك، وما ألفيت مفترقا”
أحمد حسن
لم يكن شاعر العرب، محمد مهدي الجواهري، إلّا متحدّثاً بلسانهم حين قال في تسعينيات القرن الماضي إنه لم يجِد منعطفاً ولا مفترقاً في طريقه إلاّ ويقود إلى دمشق، فهي هي، مُنية الراغب وبُغية الطالب، وإلى ذلك، وقبله، مفترق الطرق الرئيس بين العروبة و.. سواها، لذلك كان من الطبيعي أن يعمد رئيس مجلس النواب الأردني إلى القول للحاضرين من وفود برلمانية عربية تحت قبّة مجلس الشعب السوري: “نحن من نرحّب بكم في سورية، فسورية لكلّ العرب”.
ولذلك أيضاً لا يمكن قراءة كسر العرب، وفوداً برلمانية ووزراء خارجية، للحصار الغربي الجائر على سورية إلّا كسراً للحصار عن أنفسهم وعن بلادهم، لأنه إذا كان من الثابت تاريخياً أن دمشق هي قلب العروبة النابض، فإنه، وبالضرورة، من الثابت حكماً أن سلامة العروبة هي من سلامة هذا القلب، وهي معادلة لم يكن للسنوات العجاف الماضية سوى أن تزيد في دلائل إثباتها وترسّخ مضمونها في الوعي العربي الشعبي قبل الرسمي، الأمر الذي “أقنع” الجميع ليس بعدم إمكانية المضيّ في مساراتٍ أثبتت عدم جدواها طوال أعوام عدّة، بل أكثر من ذلك، بخطورة هذا “المضيّ” ليس على سورية فقط بل عليهم أيضاً، حيث بدَوا في لحظة دولية فارقة “كمن يجدع أنفه بنفسه”، كما يقول المثل العربي الشهير.
وقد شهدنا في المرحلة الماضية أين وصل الحال بالعرب وأمنهم القومي، خارجياً وداخلياً، وشهدنا محاولاتٍ وتجمّعاتٍ و”ائتلافاتٍ” عُقدت، وعقدوها، لحمايتهم، كما ظنّوا، لكنها كلها كانت تسير، بالضرورة، في سياق واحد: ضربهم وتفتيتهم وإضعافهم والاستفراد بهم واحداً إثر الآخر عبر “التعمية” على “العروبة” ورابطتها بصفتها المشروع الحقيقي الوحيد الحامل لقضايا الأمة والحامي لثوابتها والرافعة الأمثل، شئنا أم أبينا، لمستقبل طبيعي في عالم قلق ومليء بالتحدّيات الوجودية المتجدّدة.
هنا تحديداً نقرأ زيارة سامح شكري، وزير الخارجية المصري، إلى دمشق، ليس بكونها فقط تعبيراً مشكوراً عن تضامن لحظي في مواجهة كارثة محدّدة ألمّت بسورية، بل باعتبارها إشعاراً علنياً بقطع شعبي البلدين وحكومتيهما الطريق على مخطّط جهنمي مدمّر لكليهما ربما كانت أوضح، و”أفضح”، صوره ومحطاته تلك التي حصلت في قلب القاهرة، عندما استغلت قوى الظلام ظروف مصر الدقيقة حينها لتعلن “الجهاد” ضد دمشق، ولم يكن ذلك في حقيقته وجوهره إلّا إعلاناً فاجراً ضد أمن مصر ذاتها، وذلك ما أسقطه الشعب المصري خلال أيام قليلة لاحقة له استناداً لوعي كامل بأن دمشق والقاهرة ليسا شركاء تاريخ فقط كما تقول أحداثه ووقائعه، بل شركاء مصير أيضاً كما يقول مطلع كل شمس.
قصارى القول: في القرن الماضي ثبّتت وقائع المنطقة معادلة واضحة تربط بين القاهرة ودمشق، وتقول: “لا حرب دون مصر ولا سلام دون سورية”. وقائع وأحداث القرن الحالي أعادت تأكيدها وإن بصيغ جديدة ربما كان أبرزها “لا استقرار دون دمشق” وبالتالي لا طريق طبيعياً للعرب، كما يقول الشاعر “الجواهري: “.. إلّا إليك وما ألفيت مفترقا”.