رحل عبد المعطي أبو زيد.. لكن حمامة السلام ستعود
ملده شويكاني
“هذا الحمام أينما أخذته يعود إلى بيته، فأخذتُ هذا الرمز، كي أقول: أنا عائد مثل الحمامة”.. هذه المفردات قالها الراحل عبد المعطي أبو زيد، رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، في أحد لقاءاته، وشاءت الأقدار أن يرحل قبل أن يعود إلى حيفا والقدس، لكن حمامة السلام ستعود ذات يوم. كيف لا، وهي التي حملت رسالته لكلّ أجيال فلسطين، فكانت عنصراً أساسياً في تكوينات لوحاته المؤكدة على حق العودة، فشغلت حيزاً من فضاءاتها ارتبط ببيوت القدس بقبابها وأقواسها بطرازها المعماري وتراثها، وبالشال الأبيض للمرأة الفلسطينية المتناوبة بين حضور ملامح وجهها وتعبيراته وغيابها، المتلاصقة مع البيوت والمتشبثة بجذورها بثوبها الفلسطيني بذاكرتها، إضافة إلى اللون الأزرق الذي انسكب على سطوح لوحاته.
أعمق من الكلمة
بهذه الرموز بنى عبد المعطي أبو زيد لوحته التي دخلت كلّ بيت ونشرت القضية الفلسطينية في كلّ العالم من خلال المعارض التي شارك بها في أغلب الدول، منها ألمانيا وروسيا واليونان والسويد وأمريكا وتشيكوسلوفاكيا وسويسرا ونيكاراغوا، وغيرها، إضافة إلى الكثير من الدول العربية، مؤمناً بدور الفنّ التشكيلي التحريضي الذي يثير الأسئلة ويوصل الأفكار إلى المتلقي من خلال الصورة، وبشكل أسرع من الكلمة، كما قال “الفنّ التشكيلي أعمق من الكلمة، لأن الكلمة نخبوية، والفنّ بصري يصل إلى كل الناس عبْر اللوحة والملصق والبطاقة، لهذا فالصورة أسرع في الوصول للناس، ومن هنا كان علينا عبء أكبر في إيصال الفكرة”.
وبصفته رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين دعا إلى التمسّك بالتراث الفلسطيني وتجسيد رموزه وملامحه في لوحات التشكيليين الفلسطينيين، للحفاظ عليه وصونه من محاولات الصهاينة بطمس ملامح التراث الفلسطيني وسرقته.
المكان الأول والذاكرة
وتميّزت مسيرته الفنية بخصائص وسمات شكّلت لوحته الفلسطينية، فانطلق من الواقعية ثم دمج بين المدارس، فأخذ من التعبيرية والتكعيبية والتجريدية كما ذكر النقاد، بالتناغم مع مساحات السطوح والألوان التي انسابت كموسيقا شاعرية تبوح بعذابات النزوح واللجوء والحنين إلى المكان الأول بما تحمله الذاكرة، فيعود إلى طفولته متسائلاً: لماذا نبتعد عن البحر؟!..
لماذا نبتعد عن مدينتنا؟
من هنا بدأت الحكاية الحزينة، فلم يكن الطفل الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره يعي ماذا يحدث حوله، إلى أن كبر وتغلغل لون البحر في شرايينه وفاض في سطوح لوحاته، لتكون زرقة البحر جزءاً من المكان، من الذاكرة، من الوطن، من حيفا التي ولد فيها، عام 1943، وحينما حدثت النكبة، عام 1948، نزح مع عائلته عبْر البحر إلى صيدا، ومنها إلى دمشق، لتبدأ معاناته مع اللجوء والمخيمات والفقر، فوصف في أحد لقاءاته كيف كان الفلسطينيون في المخيمات يتدفؤون على الحطب في “التنكة”، وكيف تسكن أربع عائلات في منزل واحد، بينما تتجمع عائلات في الجوامع، وكيف يعيشون على معونات وكالة الغوث، فشعر بالمأساة: “كان عموم اللاجئين في فقر شديد، بالإضافة إلى الضياع وفقدان الهوية وفقدان الذات، كان هناك ضياع شامل وكامل في كل شيء”.
أصبح أبو زيد مدرّساً في إحدى مدارس الأونروا للفنون، وتأثر بالفنان إسماعيل شموط وبموضوع النكبة واللجوء، فقرر تبني القضية الفلسطينية في لوحاته، وتطورت مسيرته الإبداعية مع تحوّل الفنّ التشكيلي الفلسطيني ليواكب الأحداث ويؤرّخها بعد أن كان بكائياً، يعرض مسيرة اللجوء، وأصبح دوره فعّالاً في المقاومة، فانتشر الملصق الفلسطيني وبعده اللوحة، لتكون رديفة ومساندة للبندقية.
وفي عام 1979، كان أبو زيد مع مؤسّسي اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين كجهة راعية ومنظمة للحركة التشكيلية الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة وفي بلاد الشتات، وأدى دوراً في التعريف بالقضية الفلسطينية بعد أن انتشرت فروعه في الدول العربية والأجنبية.
متابعة المسيرة
ولم يقتصر عمل الفنان عبد المعطي أبو زيد على الرسم والنحت، إذ عمل بالإخراج الصحفي والتصميم والتدريس واكتشاف المواهب، حاز على جوائز دولية وسجل التلفزيون التشيكي فيلماً عن أعماله، واتخذت مجموعة السينما الفرنسية لوحته الجذور ملصقاً لفيلم الزيتون.
أحبّ دمشق ورسم بيوتها القديمة المعطرة بالياسمين، وأحسّ بشغف يربطه بها ويذكره ببيوت القدس، كان حاضراً في كلّ معارض الفنانين الفلسطينيين مشجعاً لهم ومشاركاً حيناً، وحمّل الفنانين الشباب مسؤولية متابعة المسيرة بحق العودة والحفاظ على التراث الفلسطيني.
ستبقى لوحاته شاهداً وملهماً ليس للأجيال الفلسطينية فقط، وإنما لكلّ من يناصر القضايا الإنسانية العادلة.