عِبْرة
عبد الكريم النّاعم
قال أمير المؤمنين، أمير البلاغة، عليّ (ع): “ما أكثرَ العِبَر وأقلّ المُعتبرين”.
****
أحدُ الذين أثروا بسرعة مُدهِشة، وصار يُشار له بالبنان، أراد أن يستكمل بعض شروط الوجاهة، ومثل هذا، أو ما يشبهه، يحدث في المُدن، فتُقام الموالد، بمناسبة الولادة، أو الخِتان، أو لأيّة مناسبة أخرى، ويُقدَّم فيها الطعام، والحلوى، والمال للمنشدين،.. قلنا أحدهم دعا قُرابة ثلاثين شيخاً ممّن يُعدّون من رجال الدّين، وذبح عدداً من الذبائح، وقبلَ أنْ يُقدَّم الطعام، وقف وقال بصوت يسمعه الجميع: “يا مشايخ، أُشهِد الله أنّ كلّ ما في هذا البيت الذي أنتم فيه هو من مال حرام، الفرُش التي تجلسون عليها، وثمن الذبائح، وكلّ ما في هذا البيت هو حرام بحرام، وقد أردتُ أن أُبرِّئَ نفسي أمام الله، حتى لا يقول واحد منكم لقد خدعَنا، فمن أراد منكم البقاء فأهلاً وسهلاً، ومَن لا يريده فبسلامة الرحمن”، فقام عدد هو أقلّ من أصابع اليد الواحدة، وغادروا، وبقي الآخرون.
علّق أحدهم على هذا الحدَث، فقال: أنا أرى أنّ هذا اللصّ هو أنظف، بشكل ما، من جميع الذين قبلوا أن يكونوا مُباعين بدراهم، أيّاً كان مقدارها، لأنّهم قبلوا مُشاركة الإثم عن معرفة، فأيّ ذلّ يورثه مثل هذا الطمع الدنيء؟!!.
****
حتى ستينيات القرن الماضي لم تكن عادة الاحتفال بعيد الميلاد الشخصي دارجة في هذه البلاد، والعيد الموسمي السنوي الوحيد الذي كان يتكرّر، في بعض الجبال الغربيّة لا غير، هو عيد يُسمّى عيد “القوزلّة”، ويحتُفل به في نهاية السنّة بحسب التقويم الشرقي، وقد انقرض.
فيما بعد، ومع وصول بعض العادات من أوروبا، كما تصل البضائع، والمستوردات، صار مَن يهتمّ بعيد الميلاد الشخصي، وكان ذلك وقْفاً على أحياء الأكابر!! بيد أنّ هذه العادة تسلّلت إلى شرائح الطبقة الوسطى، يوم كانت موجودة، وأصبحت فيما بعد تأخذ صورة أعمّ، حتى صارت شبه تقليد في العديد من البيوت، وأصبحت ظاهرة معروفة.
في بلْدة لم تأخذ كلّ مظاهر المدينة بعد، ولم تتخلّ عن بقايا المظاهر الريفية التي كانت سائدة فيها، فجأة برز مَن يلعب بالمال، ويُبعزقه في كلّ اتجاه بغير حساب.. من أين يأتي به، أو كيف توصّل إليه، لا أحد يعرف إلاّ هو، وعدد قليل من الأخصّاء الذين اختارهم هو بنفسه.. هذا الذي نبق فجأة في بلدته قرّر أن يحتفل بعيد ميلاده، وكيف لا؟!! فما دام المال الوفير متيسّراً فلمَ لا يتصرّف تصرّف الأغنياء؟!
ذبح ثلاثة عُجول، وأربعة خراف، وأكثر من خمسين فرّوجاً، وفَرَش على المائدة من المشروبات الروحيّة كلّ ما يخطر ببال شارب، وهذا يحتاج للنّقل ولوازمه المُرافِقة، وبدأت الحفلة بالرقص والتصفيق والغناء، واستمرّ ذلك حتى صباح اليوم التالي، غير عابئين بمن أسْهره الضجيج، فللمال سطوة وحضور لا تتوفّر لغيره، وبإجراء عمليّة حساب بسيطة يُدرك مَن يحسب أنّ عيد ميلاد هذا الفطْحل الفذّ قد كلّف أكثر من عشرين مليون ليرة سوريّة، ولِمَ لا!! فهو أهمّ من بوذا، ومن كونفشيوس، ومن أمثالهم؟!!
آآآآآآآآآآه.. يا زمن العجائب.
بالمُقابل، يكثر عدد الباحثين في أكياس القمامة عن قطعة كرتون، ليضعها في كيس قائم بما يسنده، مشدود خلف الدرّاجة، أو بحثاً عن قطعة معدنيّة قد تُباع، وهذا يؤدّي إلى نبش أكياس القمامة، وفلْشها، ويتعاقب الباحثون في النفايات، فتتناثر النفايات ذات اليمين وذات الشمال، وهذا يجعل لمّها صعباً على سيّارة القمامة، فتظلّ مفروشة حول البيوت ناشرة روائحها، جالبة أنواع الذباب!
aaalnaem@gmail.com