مجلة البعث الأسبوعية

سورية من الاحتراب الدولي إلى كسر الحصار

البعث الأسبوعية- علي اليوسف

شكل موقع سورية الجيوسياسي المهم محطّ اهتمام وتركيز كبيرين إقليمياً ودولياً. هذا الموقع دفع الكثيرين إلى تدخلات تنافسية، ومبارزات دبلوماسية مباشرة في المحافل الدولية، وأخرى عسكرية وأمنية مباشرة وغير مباشرة على الأرض السورية بين دول في الإقليم والعالم، حتى كاد الانخراط الخارجي في الحرب الإرهابية على سورية يفوق نظيره في بقية ثورات “الربيع العربي” مجتمعة.

لقد حضرت القوى الغربية وتنظيماتها الإرهابية جميعها في المشهد السوري، حاملةً رؤاها ومقارباتها المتباينة ومصالحها المتشابكة إزاء هذا الوضع المعقّد. وعلى امتداد سنوات الصراع، تدخّل الغرب المدعوم أمريكياً بوسائل مختلفة، وعلى درجات متفاوتة بين مرحلة وأخرى، من إعلان مواقف سياسية وعقوبات اقتصادية، وتقديم الدعم للإرهابيين بالمال والسلاح والخبراء، إلى العمل العسكري المباشر، وإرسال القوات وإقامة قواعد عسكرية غير شرعية على الأراضي السورية، لغايات لا شأن لها بمجريات الأحداث. في المقابل، حافظت روسيا والصين وإيران على موقف ثابت تجاه الدولة السورية الحليفة القديمة، حيث كان لهذه المؤازرة الدور الأكبر في حماية أركان الدولة السورية.

بالغ الغرب كثيراً ومن خلفهم التنظيمات الإرهابية في الترويج لرهانهم إعلامياً، متوهمين في أنفسهم القدرة على قلب كيان الدولة السورية، لكن كانت النتيجة تثقيل صراع الأطراف الخارجية على سورية، وتعليق آمالها على تدخل عسكري خارجي سواء على الطريقة الأمريكية كما حصل في العراق، أو وفق سيناريو أطلسي يحاكي ما جرى في ليبيا، متناسين أن الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين يعملون وفق مصالحهم أولاً وأخيراً، ولا يعنيها أي ثورات سواء كانت ملونة أو سوداء.

خلال الحرب الإرهابية على سورية، ظهرت معطيات كثيرة من أبرزها الإعلان عن تأسيس ما يسمى “فرع تنظيم القاعدة في سورية”، ثم ظهور تنظيم “داعش”، وسيطرة ميليشيات “قسد” على مساحات واسعة من الجزيرة السورية، وهنا تبدلت أولويات الأطراف الدولية والإقليمية، حيث تم تبني مقاربات مختلفة في الشأن السوري عمّا كان عليه الحال سابقاً، وتقلّص اهتمام الأطراف الخارجية في الشأن السوري، وبات تركيز الفاعلين منهم شبه منحصر في حدود مناطق نفوذهم، ليأتي المعطى الأخير في هذه الحرب وهو العقوبات الاقتصادية بكافة أشكالها، ومن بينها ما يسمى “قانون قيصر”.

سورية تواجه أكثر حالات الطوارئ الإنسانية تعقيداً في العالم

خلال سنوات الحرب والحصار الإقتصادي، كانت سورية شاهداً إضافياً على تأثير لعبة القوّة وتوازن المصالح بين الدول، لكنها استطاعت الصمود والحفاظ على المؤسسات المسّيرة للدولة، رغم كل الصعوبات والتحديات على كافة المستويات، حتى المبعوث الأممي الخاص، غير بيدرسون، لم يقدم أي مقترحات حلول لرفع الظلم عن الشعب السوري، إذ كان خلال زياراته المتكررة إلى سورية لا يملك سوى تكرار تصريحاته المنمّقة من باب “رفع العتب”.

مع بداية العام 2023  كانت سورية تواجه العديد من التحديات التي تجعلها واحدة من أكثر حالات الطوارئ الإنسانية إلحاحاً في العالم، وفقاً لما قاله المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاري، لجهة التضخم وانعدام الأمن الغذائي بسبب الحصار الأمريكي- الأوروبي الجائر. كما أن بداية العام حملت لسورية مأساة من نوع آخر حين ضرب الزلزال عدد من المدن السورية في 6 شباط، حتى بات السوريين يعيشون بين نارين وهما الزلزال المدمر، والعقوبات الجائرة بكافة أشكالها رغم توالي وصول طائرات الإغاثة المحملة بأطنان من المساعدات الإنسانية والغذائية والطبية لمتضرري الزلزال إلى المطارات السورية في حلب واللاذقية ودمشق من الدول الشقيقة والصديقة لسورية.

لكن على امتداد الجغرافيا السورية، وحجم المساعدات المعلن عنها، إلا أن ما يثير  التساؤلات، هو ما يسمى “قانون قيصر” والعقوبات الأمريكية التي تقف عائقاً أمام تقديم المساعدات للشعب السوري، والمقصود هنا ليس المساعدات الغذائية والإغاثية وغيرها، بل المقصود هو المساعدات اللوجستية التي لم يشملها الرفع الجزئي للعقوبات الأمريكية والأوروبية، لأن الوضع مأساوي والمتضررون كثر، والاستجابة الإنسانية سواء من اللجنة الدولية للصليب الأحمر أو الهلال الأحمر أو غيرهما من المنظمات، لا تفي بتلبية الاحتياجات كاملة، خاصةً أن الوضع الإنساني في سورية ليس وليد اليوم، بل هو ناتج عن أكثر من 12 عاماً من الحرب الإرهابية على سورية، والذي خلف وضعاً إنسانياً مأساوياً أثّر حتى على البنية التحتية الخدمية، فالمستشفيات لا تعمل بالكفاءة المطلوبة، والخدمات في مجال الكهرباء والمياه وغيرهما من الخدمات الأساسية شبه مدمرة، وبذلك يكون الوضع الإنساني بعد هذه الكارثة كارثياً.

الزلزال السوري والغرب المنافق

عندما بدأت العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا في 24 شباط 2022، انعقدت جلسة مجلس الأمن في 27، أي بعد 3 أيام فقط مهرولةً لمواجهة الأزمة التي لم تكن كارثة طبيعية، بينما على الجانب السوري الذى شهد كارثة طبيعية، لم يتحرك مجلس الأمن وغيره من المنظمات الأممية، على عكس الدول العربية التي سارعت في إرسال العديد من المساعدات للشعب السورى للتخفيف من معاناته ودعم عمليات رفع الأنقاض وإنقاذ المتضررين. بمعنى أن تحرك الغرب لرفع الحصار عن سورية لا يرتق لمستوى الكارثة الإنسانية التي يعانى منها السوريين.

والسؤال هل تكون هذه الكارثة الإنسانية دافعاً لدى الغرب لرفع الحصار عن سورية من أجل تخفيف معاناة السوريين، أم سيظل الغرب يكيل بمكيالين ويتحرك فقط عندما تكون الأزمة تتعلق بأحد الدول الأوروبية؟. حتى الآن هناك قناعة لدى كل السوريين أن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والناتو أعداء الشعب السوري، ويعملون ليلاً نهاراً لإسقاط الدولة الوطنية، فالولايات المتحدة الأمريكية ترفع شعارات الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان من أجل التضليل للتدخل بالشؤون الداخلية للدول والشعوب لتحقيق مصالحهم وأهدافهم .

لذلك ينبغي على الولايات المتحدة أن تضع الحسابات الجيوسياسية جانباً وتنهي على الفور كل العقوبات التي اتخذتها ضد سورية، بدلاً من هذه التمثيلية السياسية بتخفيف العقوبات بشكل مؤقت، لأن العقوبات التي فرضها الغرب كان لها تأثير كبير على السوريين خاصة بعد الزلزال، حيث لا توجد أى واسطة من الدفاع المدنى جديدة بعد عام 2011 والعربات تعانى من عدم وجود الوقود، ومعطلة لأن الغرب يعتبر أن سيارات الإسعاف والإطفاء والإنقاذ والدفاع المدنى ذات نظام مزدوج ويمنع تصديرها إلى سورية.

لقد شكل الحصار الشديد الذى فرضه الغرب على سورية عامل كبير في إضعاف سورية فنياً وتقنياً وتكنولوجياً فى مواجهة الأزمات والكوارث سواء كانت تهديدات طبيعية أو الحرب على سورية، فالمسألة مزدوجة لدى الغرب، ففي أوكرانيا نجد دور أمريكى وغربي واضح في تقديم المساعدات العسكرية والفنية والتقنية لدعم أوكرانيا ضد روسيا لأن الحرب فى أوكرانيا، بينما في سورية فالغرب يصم عينه عما يحدث ويحاول أن يسئ لـ سورية.

لعل الكلمة المفتاح في حل الأزمة السورية، قبل التوجه للغرب، هو أن يكون هناك تحرك عربي، خاصةً أن معظم الشعوب العربية كلها تقف إلى جانب بعضها البعض في الأزمات والأمور الإنسانية، وهذا الأمر لم يكن مفاجئة ليكشف لحمة العرب، لأن ما قامت به الدول العربية هي أمور في الحقيقة أكثر من إنقاذ للضحايا، فهي كان لها أثر مباشر في إعادة الأمل بالحياة، فالزلزال السوري أظهر التلاحم بين العرب، وأظهر الانتماء الكبير للعرب والذي أعطى نوعاً مما يسمى الأمن الإنسانى والمجتمعي، وأعاد النظر فى الكثير من الرؤية العربية.

لقد أظهر هذا الزلزال بشكل أوضح أثار العقوبات الكارثية على سورية، بل أظهر الجريمة المتروكة في مجتمع محاصر منذ العام 2011  إقتصادياً، فالولايات المتحدة الأمريكية والغرب من خلال حصارهم لسورية مسؤولين مسؤولية مباشرة عن قتل نصف عدد الذين تم تسجيلهم ضحايا على أقل تقدير، لذلك عرى الزلزال وأظهر حجم الجريمة الأمريكية بالحصار وأظهرها للعالم كله أنها معادية لأساسيات القانون الدولي الذي يجرم الحصار لأسباب سياسية على أي دولة من دول العالم بشكل منفرد، وهو الأمر الذي شكل نوع من الإحراج للغرب، ومثل ضغط على هذه الدول، بل عرى المجتمع الدولي من كل ما كان يدعيه من إنسانيات.

انفتاح عربي على سورية

من الواضح أن الانفتاح العربي على سورية تمظهر في الحركة السياسية التي بدأها رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد، بقراره إرسال مساعدات مباشرة إلى سورية ليتم لاحقاً اختراق الجمود فيما يخص الملف السوري عبر مدخل المساعدات الإنسانية لمواجهة أعباء الكارثة، وفتح الباب أمام مراجعة تعيد ربط سورية بالعالم العربي بشكل طبيعي، وإنهاء القطيعة من قبل متآمرين دمروا سورية وهجروا أهلها.

بالرغم مما خلفه الزلزال إلا أنه حمل بوادر فك الحصار الظالم الذي تعرضت له سورية، وكأن هذه الكارثة الطبيعية وقعت لتذكر العالم بأن العقوبات التي تفرضها الأحادية القطبية لا مجال لاستمرارها ولا مبرر لاحترامها، لترتفع بذلك الأصوات المنادية إلى فك الحصار عن سورية بشكل عاجل وفق قاعدة الانسانية التي هي أعلى وأسمى من القوانين الجائرة التي أعطت نتائج سلبية في غير صالح الشعب السوري،

هل آن الأوان للمجتمع الدولي أن يستدرك مسؤولياته تجاه سورية، وهل فهمت هيئاته رسالات الانسانية الحقيقية التي تجلت صورها التضامنية باستجابة عفوية كانت قوية بمعانيها وقيمها الانسانية من دول لها تاريخ في احترام حق الشعوب في الحرية والاستقلال بما يستجيب لتطلعاتها في التطور والرقي؟.

لقد كانت بداية التضامن مع سورية عقب الزلزال عبر الجسور الجوية للمساعدة في عمليات الاغاثة الإنسانية، هذه الجسور ستنتصر لا محالة بمفهومها الحقيقي الذي يستحق التقدير والاستدلال به لكسر الحصار، ولتكون معها مبادرات ستتلاحق من دول لها إدراك ووعي بالمسؤولية التاريخية تجاه سورية التي انتصرت في النهاية لترسم صورة عما تستحقه من عالم يتغني بالانسانية التي غيبتها قوانين العقاب الجماعي ولوائح الحظر الجوي والعقوبات الاقتصادية التي تقتل الانسان وتقوض حقوقه الأساسية.

هل كان إعلان الادارة الأمريكية عن عدم منع قوانينها العقابية للمساعدات الانسانية في سورية مجرد مسايرة للتطورات التي تبعت الزلزال وما طغى عليها من تضامن واسع مع سورية، أم أن ضعف بقية العالم كان السبب وراء تغول السياسات العقابية التي تُفرض على الشعوب الضعيفة لقهرها ولثني قياداتها عن خيارات دول كانت مهداً للحضارة الإنسانية وقدمت مجتمعاتها نماذج حضارية؟.

إن الدروس الصحيحة دائماً تفرضها الإنسانية بطبيعتها وقوانينها الأزلية ذات الحقوق العادلة التي لا تسنها قوى الهيمنة الأحادية، فمهما طال الزمن فلابد للأباطيل أن تنتهي وإن تخاذل الجميع أو تقاعست الغالبية أو حتى إن تراجع تأثير أصوات الحق في منابر الهيئات التي يزعم أنها أممية، لابد أن تفرض نواميس الطبيعة قوانين التوازن الذي سيعيد ضبط الأمور في العالم بتعدد أقطاب يحمي الجميع من الهيمنة المتسلطة على الشعوب، وليكون نضال وكفاح الشعب السوري مدرسة في الثبات والصبر والتلاحم ضد المؤامرات، وتكون سورية على قلب رجل واحد أكثر من أي وقت مضى وأكثر تضامناً في المحن والكوارث التي شاءت الأقدار أن تكون سبباً في كسر الحصار، وليعاد النظر في هكذا قوانين أضرت بالشعوب وبحقوقها.