استحقاقات المبادرة الصينية وتداعياتها
ريا خوري
في الذكرى الأولى للعملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وعلى خلفية استمرار الحرب، والتحريض والدعم الغربي غير المحدود لأوكرانيا التي تحوّل العديد من مدنها إلى الفوضى العارمة، قدّمت الحكومة الصينية، في ٢٤ شباط الماضي، مبادرة مؤلّفة من ١٢ نقطة، تضمّنت الدعوة لوقف القتال والتوصل إلى حلّ سياسي بأسرع وقتٍ ممكن. وقد عكست معظم ردود الفعل العالمية، أو لعلها كشفت، حقيقة أن لبعض الدول مصلحة خاصة في فشل هذه المبادرة وعدم نجاحها، أي باستمرار الحرب الساخنة في أوكرانيا. وهنا نقصد الولايات المتحدة الأمريكية، وأكثرية دول أعضاء حلف شمال الأطلسي، وهي الدول المشتركة عملياً في الحرب إلى جانب أوكرانيا، بمعنى انغماسها بشكلٍ كليّ في دعم أوكرانيا بالسلاح والمال والمعلومات الاستخباراتية.
لقد نجحت الصين، عبر هذه المبادرة، في أن تثير الاهتمام العالمي بالقضية الرئيسية والأهم في جدول اهتمامات القيادة الراهنة للحزب الشيوعي الصيني. وهذه القضية هي الحاجة الماسة والضرورية لصياغة مفهوم ومحتوى وشكل نظام دولي جديد على أسس جديدة تروّج لقيامه الصين وروسيا، والذي يتحمّس له عدد كبير من دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث انضم إليها عدد من الدول الأوروبية التي كشفت مؤخراً عن مظاهر تململ وعدم ارتياح إزاء بنية النظام الدولي الراهن.
الجدير بالذكر أنّ الإدارة الأمريكية أكّدت غير مرة على لسان العديد من كبار المسؤولين أن الصين “عدو” يجب كبح جماحه، والحدّ من تنافسه مع الولايات المتحدة على قيادة العالم، فقد صدر عن مسؤول كبير في البيت الأبيض ما معناه أنّ العشر سنوات القادمة ستكون حاسمة بالنسبة لإقرار شروط المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. وصدور مثل هذا التصريح في الظروف الراهنة يوحي بوجود رابطة قوية تربط الحرب بين روسيا وأوكرانيا بالحملة الفريدة التي تشنّها الولايات المتحدة ضد الصين. كما توحي أيضاً بأنّ للصين دوراً فاعلاً في هذه الحرب إلى جانب روسيا، إن لم تلعبه حتى الآن ولو في الخفاء، فسوف تلعبه في وضح النهار في أقرب وقت، الأمر الذي يجد تفسيره في الحملة الشرسة التي نظمتها الولايات المتحدة وسيّرتها ضد المبادرة الصينية مؤخراً، في وقت كان ردّ الفعل الأوكراني عليها معتدلاً، بل بدا في أيامه الأولى مرحّباً بها ترحيباً كبيراً، كما ظهر أيضاً الرأي الأوروبي منقسماً بشكلٍ كبير، وفي أغلبه كانت ردود فعله باردة، بينما ركّز الإعلام الأمريكي وإعلام حلف شمال الأطلسي منذ اللحظة الأولى على إدانة المبادرة ورفضها.
إضافةً لذلك، قيل الكثير عن المبادرة من حيث إن توقيتها مناسب، ولكن الوقت غير مناسب، وهذه قضية تحتاج إلى تفسير، وحلّ الشيفرات الأمريكية والأطلسية. ولعلّ القصد من عبارة التوقيت المناسب هو مرور عام على حرب باهظة الكلفة والضحايا والدمار، وحالة التضخم الهائلة التي يعاني منها الغرب الأوروبي- الأمريكي. أما الوقت غير المناسب فالقصد منه أن الولايات المتحدة لا تزال على إصرارها أن تستمر الحرب حتى “تنهزم روسيا هزيمة ماحقة”، لتبقى الولايات المتحدة هي الدولة الكبيرة الوحيدة في العالم التي لم تُصب بأذى.
لقد تمّ تسريب الكثير من الكلام حول المبادرة الصينية التي قيل عنها إنّ الصين بعرضها مبادرة سلمية أرادت أن تبعد عن نفسها أي شكّ في أنها يمكن أن تغيّر موقفها من الحرب الدائرة في أوكرانيا بين روسيا وخمس وثلاثين دولة حول العالم، فتتحوّل تحت الضغط الأمريكي حليفاً قوياً لروسيا. كما تمّ تسريب الكثير من المعطيات والمعلومات لرجال من الاستخبارات الأمريكية متخصصين بشؤون الشرق الأقصى أن الصين شعرت في الفترة الأخيرة بزيادة كبيرة في محاولات جرّها إلى حرب أخرى طاحنة في شرق آسيا، سواء باستفزازها بتدخل شبه عسكري في جزيرة تايوان، أو بوقيعة بينها وبين كوريا الجنوبية أو اليابان، إذا هي استمرت بالتدخل مع روسيا كشريك في الحرب، أو بالدعم الكامل أو الجزئي بشكلٍ صريح.
معظم المتابعين للمبادرة الصينية وردود الأفعال عليها لا يستبعدون أن تكون الصين قد أقدمت على طرح هذه المبادرة أملاً في تحريك الموقف الدولي نحو تفاهم، أو برهة من الوقت تسمح لكلّ الأطراف المتنازعة بإعادة النظر في تحركاتها وأسلوب تعاطيها مع الأزمة، وإعادة صياغة أهدافها من هذه الحرب. كما اعتبر عدد كبير من المتابعين لردود الفعل للمبادرة الصينية أن روسيا باتت خلال عام واحد من الحرب في وضع عسكري واقتصادي جيد بالنظر إلى الإمكانات الهائلة. من ناحية أخرى، لا يجوز أن نقلّل من شأن الدور الذي لعبته معظم دول القارة الإفريقية وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط بامتناعها عن تأييد ردّ فعل “الناتو”، على الرغم من أن الولايات المتحدة كانت تمارس أقصى ضغوطها عليها، ومما لا شك فيه أن الهند ودولاً عربية بعينها، وإيران، كانت قد جسّدت أمثلةً بارزةً على قسوة بعض هذه الضغوط وتلك التهديدات.