استراتيجية فرنسا الجديدة في أفريقيا
هيفاء علي
قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بجولة في أفريقيا في الفترة من 1 إلى 5 آذار الجاري، زار فيها الغابون وأنغولا وجمهورية الكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وقد تحدث عن الاستراتيجية الجديدة للعلاقات مع أفريقيا، والتي تتمثل في تقليص الوجود العسكري المباشر في المنطقة، مع تفضيل “القوة الناعمة”، للتطبيق الفعّال الذي يجب على فرنسا اتباعه، ويتمثل بعدم محاولة تصحيح كلّ مشكلات أفريقيا، ولا التأمل في تحقيق أكثر مما تستطيع تحقيقه.
وبحسب محلّلين فرنسيين، تأتي جولة ماكرون على خلفية التغيّرات في منطقة الساحل المتاخمة للصحراء، حيث تخلّت فرنسا عن دعم دولة أخرى من دول الساحل الخمس (بوركينا فاسو، النيجر، مالي، تشاد، موريتانيا) لمصلحة روسيا، حيث جاءت مالي في المرتبة الأولى، تليها بوركينا فاسو. وقبل وقت قصير من جولة ماكرون غادر هذا البلد آخر جندي فرنسي من مجموعة عمليات “بريخان”.
كانت هذه المجموعة تقاتل الجماعات المتطرفة التي تسيطر على جزء كبير من البلاد، بعدما فشل الجيش المحلي في التعامل مع المتطرفين، ولم يخفِ إبراهيم تراوري، رئيس بوركينا فاسو، التي قطعت العلاقات مع فرنسا، حقيقة أنه يعتمد على دعم موسكو في قتال المتطرفين. ويبدو أن فتى الاليزيه قرّر شرح سبب مغادرة القوات الفرنسية بوركينا فاسو دون شكوى، تماماً كما غادروا مالي في وقت سابق، ليتضح أن هذا كان جزءاً من الاستراتيجية الفرنسية الجديدة في أفريقيا، والتي سيتمّ تنفيذها بالتأكيد في الأشهر المقبلة. ووفقاً لماكرون، ستبقى القوات الفرنسية هناك، لكن بأعداد أقل، ولكنها ستتدرّب أكثر، ويتمّ تجهيزها أكثر وبدعم أفضل، وذلك بناء على طلب صريح، مضيفاً أنه يجب ألا يكون النموذج الفرنسي للقواعد عسكرية كما هي موجودة اليوم، وانما ستكون من الآن فصاعداً، قواعد مدرسية مع موظفين فرنسيين وأفارقة، مشدداً على أن الاستراتيجية الجديدة لا علاقة لها بالتجربة المعروفة لمختلف الدول التي تستخدم الشركات العسكرية الخاصة، وتعمل بحكم الواقع بموافقة السلطات المحلية دون أن تخضع لها في الممارسة.
السياسة الأفريقية الجديدة التي أعلنها ماكرون هي نوع مختلف من “سياسة البندول”، وهي سياسة انفتاح تساعد في مواجهة بعض الأزمات السياسية، والتي كانت تستخدمها في السابق العديد من الدول الأوروبية، بمعنى تترك فرنسا البلدان التي يكون وجودها فيها مكلفاً للغاية، ولا تحقق فائدة كبيرة لفرنسا، وهذا ما يفسّر ما هي الدول التي اختارها ماكرون لجولته، وتعزيز التعاون مع أهم الدول السياسية والاقتصادية في المنطقة، بمعنى أنه لم يتمّ اختيار مسار جولة الرئيس الفرنسي عشوائياً: الغابون الغنية بالنفط، وهي أكثر الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية تطوراً ديناميكياً، وأنغولا في تطور كامل، وجمهورية الكونغو الديمقراطية الدولة الرئيسية في الحزام النحاسي في أفريقيا، وتمتلك أكثر من 60٪ من احتياطي الكوبالت في العالم.
ألمح ماكرون إلى أن فرنسا ستعمل بنشاط على تطوير علاقاتها مع هذه الدول، وشدّد على ضرورة التعامل مع أفريقيا كشريك على قدم المساواة، والتركيز ليس على المساعدات، ولكن على الاستثمار، معلناً عن إعداد قانون إطاري سيُقترح في الأسابيع المقبلة لوضع منهجية ومعايير للمضي قدماً في عمليات الاستعادة الجديدة للأعمال التي طلبتها الدول الأفريقية.
سبق وأن تمّ تنظيم حدث كبير من هذا النوع لأول مرة في عام 2021، ثم أعادت فرنسا جزئياً إلى ألمانيا القطع الفنية والتحف التي نُهبت خلال الحملات الاستعمارية.
وفي منطقة الساحل، تحتفظ الجمهورية الخامسة بكتيبة عسكرية كبيرة في تشاد والنيجر، حيث تولى محمد إدريس ديبي، نجل الرئيس الذي قُتل في الاشتباكات، السلطة في تشاد عام 2021.
إن الغنيمة الواعدة هي الوجود الفرنسي العسكري في النيجر، التي تمتلك أغنى الاحتياطات من اليورانيوم، والتي يتمّ استخراجها وإنتاجها ونقلها منذ زمن طويل. وهذا ما يميّز هذا البلد عن غيره من دول المنطقة التي لديها احتياطيات معدنية، ولكن استغلالها التجاري يواجه العديد من الصعوبات. لذلك يبحث الإليزيه منذ عدة سنوات عن نهج جديد في أفريقيا، وقد كان جاك شيراك، ونيكولا ساركوزي قد تحدثا عن ذلك بالفعل، مع العلم أن الفرنسيين غالباً ما دعموا الأنظمة الاستبدادية التي يمتلك قادتها عقارات وحسابات في فرنسا.
من المؤكد أن هذا يساعد إلى حدّ ما على تقوية العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة، ومع ذلك، فإن الماضي الاستعماري يمنع التنفيذ الناجح لسياسة جديدة، إضافة الى ذلك، من الواضح أن فرنسا لن تكون سعيدة عندما تفقد نفوذها وتراقب نشاط روسيا والصين في أفريقيا.