اعترافات موثقة بالإهمال والتقصير..!!
علي عبود
وجدنا في تصريحات وزارة التجارة الداخلية الأخيرة اعترافات مباشرة بالإهمال والتقصير، والكثير من الدلالات، ولا ندري لماذا يتعامل معها الكثيرون بخفة وباستهزاء على صفحات التواصل الاجتماعي، ربما يتنافسون فيما بينهم على جمع أكبر عدد من اللايكات!.
في المنشور الأخير للوزارة، قالت إنه “في كلّ مرة تطرح وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك مواد بأسعار منخفضة عبر السورية للتجارة، تسارع بعض الصفحات الصفراء إلى اتهام صالاتنا ببيع تلك المادة إلى أصدقائهم أو إلى تجار”، فهل هذا الاتهام صحيح، أم مجرد تحامل يفتقر إلى الدليل؟.
برأينا أن الصالات المستثمرة، من قبل محظوظين ومقرّبين من أصحاب الحلّ والربط في وزارة التجارة الداخلية، لن يتردّدوا ببيع أي مواد لأصحاب البقاليات والمطاعم ومحال السندويش لقاء هامش ربح غير منظور، ويشاهد الكثير من الزبائن كيف تُمرّر صناديق الخضار والفواكه بشكل جانبي أثناء قدوم الشاحنات التي تزوّد الصالات بالبضائع!.
ولن يختلف الأمر كثيراً في الصالات التي تديرها الوزارة مباشرة، فطالما شباك الإغراءات بتحقيق دخل سريع وسهل قائمة، فلن يتردّد أحد بالوقوع في براثنها، وخاصة “إن النفس إمّارة بالسوء”، والاستثناءات نادرة، وغالباً ما يوصف أصحابها بالأغبياء. ولا حلّ لهذا الداء إلا من خلال “داتا” لحركة السلع والمواد في صالات السورية للتجارة يمكن من خلالها مراقبة عمليات بيعها بالكميات وبالتواريخ، ومن الملفت أن ما من آلية من أي نوع لحركة السلع الواردة والمباعة في هذه الصالات، ما يشجّع على الفساد والإفساد!.
ويبدو أن وزارة التجارة انزعجت، أو بالأحرى غضبت، لموجة السخرية التي انتشرت على صفحات “الفيس بوك”، بعد طرحها لمادة البصل بموجب البطاقة الذكية “منعاً لأي تلاعب ولكي يستطيع كلّ من يريد شراء المادة، وهي لا تحتاج إلى تسجيل ولا إلى رسالة”.
طبعاً، سبب السخرية والانتقاد ليس بسبب بيع المادة عبر البطاقة الذكية مباشرة، وإنما بتحديد كمية هزيلة للأسرة كانت كيلو أسبوعياً، ثم زادت إلى 2 كيلو، وهي كمية بالكاد تكفي الأسرة لثلاثة أيام. والعملية برمتها، بدءاً من فقدان المادة في الأسواق، فاستيرادها، فبيعها بكمية هزيلة بموجب البطاقة، تفضح التقصير الحكومي بتأمين الاحتياجات الغذائية الأساسية لملايين الأسر السورية، وتكشف أن التصريحات المتكررة حول دعم الزراعة مجرد هراء بهراء!!.
نعم، لقد شغلتنا وزارة التجارة بتفصيلات ثانوية حول آلية بيع البصل للتعمية على القضية الأساسية، والمتمحورة بالسؤال: لماذا اختفى البصل من الأسواق؟.
لقد اختفى البصل، وتراجع عرض الكثير من السلع مع ارتفاع أسعارها، لأن الوزارات المعنية منشغلة بالاستيراد وليس بدعم زراعة وإنتاج وتسويق السلع الزراعية محلياً. وبعد البصل بدأت عمليات استيراد البقوليات، وليس مستبعداً مع خروج عدد كبير من مربي الدواجن أن تسمح اللجنة الاقتصادية باستيراد الفروج والبيض أيضاً، وطرحهما في صالات السورية للتجارة بأسعار “مخفضة” بموجب البطاقة الذكية بمعدل صفيحة بيض شهرياً وفروج واحد بوزن كيلو غرام أسبوعياً!!.
وفعلاً تمكّنت وزارة التجارة الداخلية أن تفحمنا بمنطقها بقولها “كل دول العالم تستخدم البطاقات لشراء أي شيء!”.
ترى، هل لدى وزارة التجارة الخطط في القادم من الأشهر لإلزام زبائنها بشراء جميع احتياجاتهم من صالاتها بموجب البطاقات الإلكترونية التي طبقت آلياتها بعض المصارف؟.
المسألة ليست بآلية الشراء بالبطاقات، وإنما بإمكانية شحنها بالنقود الكافية لتأمين احتياجات الأسرة السورية، فهل دخل ملايين الأسر السورية يتيح لها ترف استخدام الشراء بالبطاقات أسوة بـ”كل دول العالم”؟.
والجانب المستفز في منشور وزارة التجارة هو الفقرة التالية: “أما من يقول إن سعر البصل في الإمارات 1 درهم فهذا غير صحيح، فسعره في الإمارات أعلى بكثير من سعر السورية للتجارة!”. وهذا الكلام مستفز جداً، ليس لأنه صحيح 100%، وإنما لأنه يستغبي عقول ملايين الأسر السورية، فسواء أكانت مادة البصل في الإمارات أرخص، أم أغلى بضعف أو أكثر، فالسؤال: ما نسبة دخل الفرد في سورية مقارنة بالفرد الإماراتي؟.
والمقارنة كي تكون منطقية يجب أن تجيب وزارة التجارة عن السؤال: كم يشترى دخل الإماراتي من جهة ودخل السوري من جهة أخرى من البصل؟.
أما آخر ما أتحفنا به منشور الوزارة فهو أن “وزارة التجارة الداخلية خفضت سعر فروج البروستد من 80 ألف ليرة إلى 50 ألفاً!”.
تصوّروا هذا الإنجاز الكبير، فبعد أن كان الفروج المشوي والبروستد من ضمن قائمة الأكلات الشعبية والجاهزة طار من موائد ملايين الأسر السورية، ولم يعد الحدّ الأدنى للدخل، في حال تقيّد الباعة بتسعير الوزارة، يقوى على شراء فروجي بروستد شهرياً دون أي نفقات أخرى، كالنقل مثلاً الذي يشفط 30% من دخل أي أسرة!!.
الخلاصة: المنشور الأخير لوزارة التجارة الداخلية هو اعترافات موثقة بالإهمال والتقصير لجميع الجهات المسؤولة، نظرياً وورقياً، عن تأمين الاحتياجات الأساسية لملايين الأسر السورية، فالمسألة لم تكن يوماً بتوفر المواد في الأسواق وصالات السورية للتجارة، وإنما بالإجابة عن السؤال: كم أسرة قادرة بدخلها الهزيل على شراء ما تحتاجه من سلع بأسعار نشرات التموين الرسمية؟!!.