ارتدادات الضوء وتفاعيل الشمس
غالية خوجة
ستزال تزقزق الدلالات، ويعرّش الياسمين بلا نهايات، وتتفاءل الروح بالمحبة النابتة مثل السنابل في وطني والمعاني والإشعاعات، وسنزال نحيا مثل الشهداء، فلا الموت يصادفنا ولا الحياة تؤنسنا، ووحدها هواجسنا منشغلة بهواجسنا لنبني في زمن دمّره الظالمون والظلمات، وسنزال الأسئلةَ تتدفق فينيقاً تردّده الآفاق: أوليس من حق الأرض أن تنتفض وتعبّر عن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان؟ ومن حقّ السماء أن تكون صوْراً؟ ومن حقنا على بشرية العالم أن تجيبنا: لماذا تحاصرون الضوء؟ وإلى متى أنتم مصابون بمتواليات الرعب من الحق؟.
ليس للأسئلة صدى لأنها صوت بلا ظلٍّ، فلقد تعامدتْ مع البدايات الجديدة بنبضها العربي والإنساني، ولفحت الحلم بهويته ذات الروح الواحدة التي لديها ما يجمعها أكثر مما يفرّقها، ولذلك، أرانا وكأننا نستدرك تفاعيل الشمس بموسيقا قلوبنا وكلماتنا المرتجّة بالفجأة والبغتة والصحوة وما يليها من فتحةٍ للنور في السماء تردم فتحة في الأرض، وما بينهما يرمّم التأريخ شظاياهُ لتعود معالم سورية الأثرية إلى بهائها الحضاري ومنها تراث حلب الإنساني.
كم يحتار المرء من أين يبدأ من حلب؟ أمن قلعتها ومتحفها ومدارسها، أم من أسواقها وخاناتها وأبوابها وذكرياتها مع العالم وذكريات العالم فيها، أم من البصائر العارفة المتجذرة في مختلف العصور والعلوم والأساطير والأبجديات؟.
كيفما اتجهت في الشهباء تجذبك العقول المبدعة في كافة المجالات، وكيفما تجوّلت في شوارعها تناديك أسماء أعلامها ومجسماتهم والشوارع المسمّاة بأسمائهم، فتشرد كثيراً بين ما كان وما هو كائن، ولا يعيدك إلى اللحظة سوى بكاء صامت للمئذنة الأيوبية في القلعة، يقابله بكاء صامت لخان الوزير وهو يستعيد حياته السابقة مع طريق الحرير، بينما ينظر مجسم قسطاكي حمصي في وسط المدينة إلى ما انهار من أبنية أثرية في محيطه، وبدورها، تهطل دموع مجسم خليل هنداوي الواقف أمام أحد أبواب الحديقة، وهو يفتح ذاكرته على فيلم وثائقي لحلب المتألمة مثل الأشعة، وكأن عليها أن تدفع ضريبة الأشعة للظلمات.
أمّا الهوامش، فلا بدّ للعابر في مساربها وأزقتها أن يصاب بعدوى الحياة وهي تضجّ بين لهو الأطفال وعمل الكبار، وتلهث مع العجزة وهم يستندون بيد على العكاز ويحملون باليد الأخرى خبزاً.
وفي المتن الواضح، ما زالت الملامح مصابة بآثار الحصار المعادي الظالم، وما زال جرحى الوطن منتصرين، والرضّع ينتظرون حليبهم الذي سيصل، والمنكوبون بين فقدَيْن يستذكرون ضحاياهم وبيوتهم المنهارة، ويحلمون بعيداً عن مراكز الإيواء، بينما الموتى يتركون أرواحهم على الشواهد مرفرفة مثل زقزقة الشمس والمجهول والكلمات، كأنها بانتظار الغائبين في البلاد، والمستغيثين تحت الأنقاض، والعائدين إلى إنسانيتهم المشتعلة تحت الرماد.
وبين الهوامش والمتون، تنظر السماء إلى الأرض بحزن وعتاب، فتخجل الاهتزازات، وتلملم الجاذبية حركاتها وتشققاتها بلطف، وتعود بهدوء إلى ارتدادات الضوء لتمسح دمعةً لطفل كان هنا، وتبحث عن أشلاء جدة كانت تنادي قبل قليل، وتدلّ أباً على جثث أطفاله المتوارية بالركام، وتنادي على أمّ ميتة لترى طفلتها المرمية مع حبلها السري بين هذه الأكوام، وتخبر المرآة الواقفة في بيت انهار جداره عن ذكريات ساكنيه وأهاليهم وأصدقائهم وجيرانهم، وكيف أصبحت هذه المرآة راوية تسرد ما تراه الآن من حلب المنكوبة، وكيف يعبّر الناس مع دهشتهم أمامها مثل الارتجاجات، فتلمع الضمائر والشخصيات، وتُبحر أصواتها بين كامل الغزي، والمتنبي، وسيف الدولة، والأصفهاني، والمعري الذي سيزال ينشد للأزمان والإنسان: “صاحِ هذه قبورُنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد؟ خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد”.