التبادل التجاري بين الصين وروسيا يحقّق قفزاتٍ نوعية نحو علاقات مميزة
د. ساعود جمال ساعود
لم يكن السعي الحثيث بين الطرفين الصيني والروسي لبناء شراكة بنّاءة وليدَ اللحظة الراهنة، بل كان مبنيّاً على تخطيط وإرادة سابقين، وبالتحديد منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، هذا الانهيار الذي دشّن بداية مرحلة جديدة اتّجه بها الطرفان الصيني والروسي نحو المزيد من التقارب والتشبيك لعلاقتهما، التي ما كانت لتقتصر على مجال دون الآخر نظراً لما بينهما من قواسم مشتركة تجعل التقارب بينهما أمراً سهلاً ممكناً.
تعود مراحل انطلاق العلاقات الصينية الروسية إلى عام 1992م الذي أُعلن فيه عن السعي لبناء شراكة بنّاءة بين البلدين، ليعقب ذلك التقدّم نحو شراكة استراتيجية في عام 1996م، إذ كان حجم التجارة بين البلدين يقدّر بما بين 5 مليارات دولار و8 مليارات دولار سنويًا، وصولاً إلى عام 2001، حيث وقّعت الصين وروسيا معاهدة صداقة وتعاون لتدخل بعد ذلك العلاقات بين البلدين مرحلة جديدة اتسمت بالنموّ المتدرّج لجميع الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية، دون أن نغفل ما واجهته من صعوبات مثل الأزمة المالية التي مرّت بها روسيا في عامي 2008- 2009، وعلى أثرها اضطرّت إلى الاقتراض مفضّلة أن تكون الصين وجهتها لنيل القروض، ولتستقرّ على هذه الوجهة عند كل منعطف اقتصادي يواجهها.
كانت التجارة الشكل الرئيسي للتعاون في المجموعة الشاملة للعلاقات الاقتصادية بين روسيا والصين، ففي الفترة بين عامي 2003- 2013، زاد حجم التبادل التجاري المتبادل 7.7 مرات، وفي عام 2014 بلغ حجمها 63.6 مليار دولار، وفي عام 2015 بلغ حجم التجارة الخارجية لروسيا والصين 66.1 مليار دولار، وهنا لا بدّ من التوقّف عند عام 2016، حيث كان الميزان التجاري مائلاً لمصلحة الصين، حيث بلغت الصادرات 28 مليار دولار، في حين الواردات 38.1 مليار دولار، علماً أنّ العمليات التجارية الثنائية قد زادت منذ عام 2014م، عقب التدهور في العلاقات بين روسيا والدول الغربية، الأمر الذي صبّ في خانة توسيع العلاقات الاقتصادية مع الصين.
وذكرت بيانات الجمارك الصينية أنّ حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا قد ارتفع في أول شهرين من العام الجاري 2023م بنسبة 25.9% وبلغ 33.685 مليار دولار، حيث ارتفعت الشحنات من روسيا إلى الصين بنسبة 31.3% لتصل إلى 18.648 مليار دولار مقابل ما قيمته 15.036 مليار دولار صادرات صينية إلى روسيا، ورجحت كفة الميزان التجاري لمصلحة روسيا، وبالنتيجة أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لروسيا، ولا سيما بعد بدء العملية العسكرية الخاصّة الروسية في أوكرانيا، وما أعقبها من فرض حزم من العقوبات ضد موسكو لشلّ الاقتصاد الروسي، حيث كانت الصين المعادل التجاري للأوروبي والأمريكي، واستطاعت تحقيق المساهمة الفعّالة في استقرار الوضع الاقتصادي في روسيا لدرجة كبيرة عبر ما أبرمته معها من اتفاقيات، من قبيل اتفاقية بين شركة غازبروم الروسية وشركة النفط والغاز الوطنية الصينية بشأن توريد 10 مليارات متر مكعب إضافية من الغاز عبر مسار الشرق الأقصى.
بالمجمل، كان لما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية من إقامة تحالفاتٍ أمنية وسياسية مثل الأوكس وكواد، وتصعيد تدخّلها بالشؤون الداخلية للصين وروسيا أثر إيجابي في دفع الحليفين الروسي والصيني نحو تعميق علاقاتهما وشراكتهما السياسية والاقتصادية والعسكرية، حيث يولي قادة البلدين اهتماماً كبيراً للمضيّ قدماً بالعلاقات بينهما، ويجري الحديث اليوم عن نقل الشراكة الاستراتيجية إلى مستويات أعلى في ظل ما تشهده الساحة الدولية من متغيّرات تزيد من تقارب الطرفين في ظل ممارسة بعض القوى الكبرى سياسات عدائية ضدّهما رغم تأكيداتهما المستمرة أن تحالفهما تتميّز بعدم الانحياز وعدم المواجهة كذلك، وغير موجّهة ضد أطراف عالمية ثالثة، دون أن يعني ذلك التساهل في الاستفزازات التي تمارسها بعض الدول ضدهما، وما تقوم به من تدخّل في شؤونهما الداخلية سواء في تايوان بالنسبة للصين أم عبر دعم أوكرانيا عسكرياً ضدّ روسيا.