أنين الفلاحين ووجع المربّين يُعرّي “الحكي الحكومي” عن دعم القطاع الزراعي والحيواني!
البعث الأسبوعية – غسان فطوم
من يتابع تصريحات المعنيين في القطاع الزراعي التي تتناقلها بكثرة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي يخيّل له أن أمور الزراعة والثروة الحيوانية عندنا بألف خير، لكن مجرد جولة قصيرة على أرض الواقع سيرى أن أنين المزارع من المعاناة لتأمين محصوله، ووجع المربين يُعري ذاك “الحكي الحكومي” الذي لا يسمن ولا يغني من جوع!، فغلاء الأسمدة والأعلاف والأدوية الزراعية وعدم توفر الكهرباء والمحروقات كلها عوامل ساهمت بوأد الكثير من الزراعات، وانحسار تربية الدواجن والمواشي!.
“كسروا الفلاحة”
اليوم لا يخفى على أحد من المسؤولين الزراعيين أن نسبة كبيرة من الفلاحين والمزارعين “كسروا الفلاحة” -كما يقال بالعامية-، وأن العديد من مربي الثروة الحيوانية باعوا قطعانهم لعدم المقدرة على تأمين تكاليف بقائها على قيد الحياة والحصول على منتج يغطي ولو نسبة صغيرة من الخسارات؟.
المفارقة أن وزير الزراعة والإصلاح الزراعي المهندس محمد حسان قطنا أكد في اجتماعه أول أمس مع مديري الزراعة بالمحافظات ورؤساء دوائر التخطيط والإنتاج النباتي على ضرورة دراسة الطرق المثلى لتشجيع الفلاحين على التوسع بالزراعة وخاصة زراعة المحاصيل البقولية، مكرراً دعم الوزارة للمزارعين، حيث أشار إلى أهمية تحديد ما تستلزمه عملية تنفيذ الخطة الزراعية والإنتاجية وخاصة المحروقات والأسمدة.
هنا نسأل: طالما في كل عام تتلى تعليمات إعداد الخطة الإنتاجية لكل موسم زراعي لماذا يتكبد الفلاح ومربي الثروة الحيوانية وخاصة الدواجن الخسائر ويجبرون على ترك العمل؟!.
غير مدركين!
الخبير الزراعي أكرم العفيف يرى أن المشكلة تكمن في أن الكثير من صنّاع القرار وخاصة في القطاع الزراعي لا يدركون البيئة الإنتاجية الزراعية السورية، وأعطى أمثلة واقعية عديدة عن هذه المشكلة قائلاً: عندما يتكلم صانع القرار عن السعر العالمي للقمح ونقارن تسعيرة القمح عندنا نجده يغفل أن القمح السوري فيه تبن وهو المادة التي تعني استمرار الثروة الحيوانية التي تُشغّل العديد من اليد العاملة، لهذا فعندما نستورد على حساب زراعة القمح نكون قد ساهمنا في قتل ثروتنا الحيوانية، أيضاً هناك مثال آخر، فعندما قارن صانع القرار الشوندر والسكر بالسعر العالمي واتخذ قرار الاستيراد أصبح سعر الشوندر المحلي غير مجدٍ، والنتيجة كانت توقف معمل سكر سلحب ثمان سنوات، عدا عن أن هذا القرار أضر بتربية الثروة الحيوانية وخاصة الأغنام لأن نواتج التصريم (قطع الجذور) وحدها كانت تجمع وتخزن ليطعم المربين أغنامهم طيلة الشتاء ففيها السكريات والألياف والبروتين، لذلك بعد توقف المعمل لجأ المربي إلى التبن الذي ارتفعت أسعاره، موضحاً أن تكاليف تربية المواشي باتت مكلفة في ظل ارتفاع أسعار العلف والتبن، فرأس الغنم الواحد يكلّف يومياً ٢٠٠٠ ليرة، وبذلك من يمتلك قطيع مؤلف من ٥٠٠ رأس صارت تكلفته اليومية مليون ليرة، وهو بلا شك رقم كبير أجبر العديد من مربي الثروة الحيوانية على الإحجام، وبذلك كاد قطيع الأغنام وحتى الأبقار أن ينتهي ومثله زراعة الشوندر والقمح والمواسم الأخرى عندما غاب الدعم الحقيقي عنها.
أمر غريب!
ويستغرب الخبير الزراعي ما يحصل لقطاع الزراعة، فسورية منذ عشرة آلاف سنة مرتبطة بالإنتاج الزراعي الذي بات مهدداً بشكل غير مسبوق بسبب السياسات الزراعية غير الموفقة والتي أجبرت الفلاح على هجر أرضه والمربي على ترك قطيعه أو إغلاق منشأة الدواجن!.
وبيّن العفيف: أن تراجع أداء المصارف الزراعية أجبر بعض الفلاحين على الاقتراض بقائدة ٦٠ % سنوياً عدا عن الخسائر التي كانت بانتظارهم نهاية الموسم، فعلى سبيل المثال باعوا البصل بـ 300 ليرة ونشتريه اليوم المستهلك بـ 15000 ليرة قبل أن تتدخل السورية للتجارة، حتى الثوم تم بيعه في الموسم الفائت بأسعار زهيدة، وربما يشتريه المستهلك هذا العام بـ 20 ألف ليرة!
ودعا عفيف المعنيين لدعم القطاع الزراعي بشكل فعلي من أجل المحافظة على الإنتاج، فسورية أرض الخير ولا يجوز برأيه أن تستورد لا البصل ولا البطاطا ولا الثوم أو غيرهم من المنتجات الغذائية.
كارثة كبرى!
ويؤكد آخرون من العاملين في القطاع الزراعي إن استمرار إهماله سيؤدي إلى الكارثة، منتقدين القرارات التي أضرت بالقطاع الزراعي وصبت في خدمة المستوردين، وهذا برأيهم ما سيهدد أمننا الغذائي، مطالبين بوضع القطاع الزراعي بالعناية المشددة من خلال العمل بجدية دون رمي أرقام وتوزيع خطط من فوق المكاتب، وخاصة ما يتعلق بدعم المحاصيل الإستراتيجية، وأن يتم العمل على فتح معامل السكر والألبان وغيرها، ودعم كل المؤسسات الأخرى ذات الصلة لتكون الوسيط الوحيد بين الفلاح والمستهلك.
عدد آخر انتقد نظرة المعنيين إلى الزراعة من زاوية الربح والخسارة، في الوقت الذي يجب أن تكون فيه الأولوية لتحقيق الأمن الغذائي، لأنه بقدر ما يتحقق الاكتفاء الذاتي بقدر ما يكون القرار الاقتصادي والسياسية حراً، مطالبين بضرورة الحفاظ على منتج الفلاح وتأمين مستلزمات الإنتاج بشكل ميسر ووضع والأسعار المناسبة في نهاية الموسم لاستمرار العملية الإنتاجية.
مزارعون يسألون
العاملون في الزراعات المحمية “البيوت البلاستيكية” شكوا من غلاء لفة النايلون التي وصلت لـثلاثة ملايين ليرة، وعلبة المبيد بحدود 380 ألف ليرة، وغيرها من المستلزمات الأخرى الغالية، وما يزيد الطين بلة أن التسعيرة تكون غير منصفة للمزارع، عدا عن استيراد المنتج في عز موسمه، فأي دعم هذا الذي يتحدثون عنه؟!
مهنة الصواف!
وشكا مربو الأغنام من كساد صوف الغنم في موسم جزه، وبعضهم قال أنه يرميه في أرضه دون مقابل، في وقت كان فيه صوف الغنم يحقق ثروة للمربين، متسائلين: من قضى على مهنة الصواف، وهل تفكر وزارتا الزراعة والصناعة بإعادة الحياة لهذه الصناعة الزراعية، أم أن الأمر ينتظر مقترحات وزارة التنمية الإدارية؟!.
والبعض استفسر عن “موت” معمل الفرات للجرارات الزراعية في حلب الذي كان من أفضل المصانع في العالم، وسألوا: هل هذا يصب في مصلحة القطاع الزراعي أم في مصلحة المستوردين؟!.
يا خسارة!
بالمختصر، مؤسف جداً أن تتحول سورية من بلد زراعي منتج لأغلب المحاصيل إلى مستورد لها مما تسبب في قلة المواد وارتفاع أسعارها بشكل يعجز المستهلك عن الشراء، ما حصل مع “البصل” خير دليل، عدا تصدير الأغنام وتهريبها في ظل غياب المحاسبة، لذا نقول إن دعم القطاع الزراعي والثروة الحيوانية لا يتم بالجولات الميدانية وعقد المؤتمرات والاجتماعات وورش العمل والندوات، وإنما بالعمل الجدي على تأمين كافة المستلزمات وبأسعار مخفضة حتى تعود الزراعة كما كانت عصب الاقتصاد السوري قبل الصناعة والتجارة، فسورية كانت تصدر مئات الأطنان من القمح والزيتون والحمضيات والفواكه والفستق الحلبي عندما كان الفلاح مدعوما بالقروض الميسرة وبالوقود والكهرباء، أما اليوم فهو يفتقد لأقل مستلزمات الإنتاج بحجج لم تعد مقنعة، وما هي إلا تهرب من المسؤولية والفشل المتعاقب في إعادة الروح لهذا القطاع الحيوي!.
هامش
تبلغ مساحة الأراضي الزراعية المستثمرة في سورية ( 5.7) مليون هكتار من أصل (6.5) مليون منها قابل للزراعة، وتبلغ مساحة الأراضي المرورية (1.4) مليون هكتار، وبحسب الإحصائيات الرسمية فإن (8.9) مليون نسمة يقطنون في الأرياف يعمل أكثر من مليون عامل منهم في الزراعة أي ما نسبته (19.4%) من قوة العمل السورية، وتسهم الزراعة بـ (17.6%) في الناتج المحلي الإجمالي.
أمام هذه الأرقام نستغرب كيف أهملنا، بل قتلنا هذا القطاع الهام الذي يمثل خط الدفاع الأول في صمودنا واستمرار حياتنا!