بلاد المصائر الكبرى
أمينة عباس
أثارت محاضرة د. ناديا خوست التي ألقتها مؤخراً في اتحاد الكتّاب العرب تحت عنوان “بلاد المصائر الكبرى”، بتعدّد موضوعاتها وغناها، شهية الحضور النوعي لطرح العديد من المحاور، وخاصة ما يتعلق بدور المثقف في تكريس الانتماء الوطني وإشكالية علاقة المثقف بالسياسي وأهمية العودة إلى الماضي، وكيف نقرأ التاريخ والدور الكبير الذي قامت به المرأة في معارك المصير.
وبيَّن د. محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتّاب العرب في مداخلة له أن الاتحاد يدين بفضل كبير للدكتورة خوست ومثيلاتها اللواتي عملن على ترسيخ الفكر والوعي الوطني وثقافة المقاومة والتصدي للتطبيع، ورأى أن هذا لم يأتِ من عبث، فهي سليلة قامات كبيرة كان لها دور في النضال.
المرأة السورية
ولتزامن المحاضرة مع عيد المرأة وعيد الأم ارتأت د. خوست تخصيص جزء كبير منها للحديث عن المرأة السورية، ليس للحفاوة بالأعياد ولا للتفصيل في ما كسبته المرأة من حقوق، بل لتأمل المصائر الكبرى التي خُصّت بها هذه البلاد التي ارتبط فيها مصير المرأة بالمصير الوطني، فبدأت خوست محاضرتها بالإشارة إلى أن الشعر العربي يشهد أن المرأة كانت ذات مكانة، وكانت زينة الحياة، وقد اختارت مطلع القرن العشرين لتسلط الضوء على نخبة من النساء الرائدات في عالم الثقافة والنضال، مؤكدة أننا لا نقرأ في حياتهن أنهن عزلن حقوق المرأة عن المسألة الوطنية، بل انشغلن بحماية الوطن من التدخل في فترة تاريخية عاصفة، وكانت في مقدمة هؤلاء ماري عجمي التي روّجت للعروبة وهي التي أسّست مجلة “العروس” 1910 وجمعت رجال الثقافة في منتداها وأحبّت أحد شهداء أيار، واستطاعت أن تزور من سجنوا في الجامع المعلّق قبيل الإعدام والكتابة عنهم، وكذلك رفيقتها نازك العابد التي كانت من أسر شهداء أيار المنفيين إلى الأناضول، وهي التي أسّست في أيام الدولة العربية جمعية النجمة الحمراء ومدرسة بنات الشهداء ومجلة “نور الفيحاء” ورافقت يوسف العظمة إلى معركة ميسلون وفضّلت البقاء في قلب الصراع في سورية بعد أن أوفدت بمنحة دراسية إلى أمريكا. وذكّرت خوست كذلك بنساء عائلة الجزائري اللواتي كنّ مع الوطنيين السوريين، وعند الشابة ألفت الإدلبي التي كتبت روايتها عن الثورة، مؤكدة أن وراء تلك العلامات المتوهجة ملايين النساء، منهن بنت القضماني التي أخفت سلاح رجال ميسلون في البساتين، ثم نقلته بعد خمس سنوات إلى رجال الثورة السورية الكبرى، وسعاد التي نقلت الأسلحة من شكري القوتلي إلى ثوار فلسطين في انتفاضة 1936 ونساء ذكر أكرم الحوراني في مذكراته أن المحاكم الفرنسية سجنتهن لأنهن شاركن في الثورة السورية الكبرى، موضحة أنه في تلك الأشهر العاصفة شاركت النساء في الصراع لحماية الدولة العربية، فانحازت ماري عجمي إلى الدولة الواحدة التي يتساوى فيها المسلمون والمسيحيون، وعبّرت عن ذلك في مجلتها ومنتداها، وبيّن اشتراك نازك العابد في معركة ميسلون وانحيازها إلى مواجهة الجيش المحتل الذي أتى ليسقط الدولة ويمنع التصويت الأخير على الدستور المتقدم حينها، مع إشارتها إلى أن سورية من أوائل البلاد التي أعطت المرأة حق الانتخاب في دستور عام 1950 ونصّ قانونها عام 1954 على المساواة في الترشيح بين المرأة والرجل، فسجل أن أول قاضية سورية كانت عام 1975 وأول وزيرة للثقافة عام 1976 وأول ديبلوماسيات عام 1994 وأول نائب رئيس جمهورية عام 2006 من خلال د. نجاح العطار المثل الكبير كمثقفة وكاتبة دؤوبة وشخصية وطنية.
الحرب على سورية والزلزال
خلال الحرب على سورية وحين ألغي العقل وسادت الخرافة بقوة السلاح في المناطق التي حكمتها العصابات الإرهابية، بيّنت خوست كيف استخدم جهاد النكاح وأبيح الاغتصاب والزواج بالقوة من الفتيات الصغيرات، وفي الوقت نفسه أصبح ظفر المرأة وصوتها عورة فحرم تعليمها وتاجرت عصابات الرقيق بها، مؤكدة أن تلك المآسي يجب أن تبقى في الذاكرة لنستنتج أن غياب الدولة الحامية يبيح للعصابات ارتكاب الجرائم، وأن المرأة في غياب الدولة هي أول الضحايا، مشيرة إلى كوارث الحرب الأخرى من تدمير للبنية التحتية وتفكيك المعامل وترحيل الآثار ونهب الاحتلال الأميركي والمرتزقة للنفط والقمح السوري وقانون قيصر الذي واكبه عمل شبكة من تجار الحرب ونهابي المال العام، لأن العقوبات حرّمت التعامل مع الدولة السورية وروسيا وإيران، فأخذ المستورد الخاص مكان الدولة وقد دفع العمولات وفرض ربحه على المستهلكين في ظل ارتفاع أسعار جنوني فرغ صندوق توفير الطبقة الوسطى واستولد فقراء ومشردين زاد عددهم مع كارثة الزلزال التي أظهرت الحب الذي انهمر على السوريين بعده من خلال زيارات الرسميين وتقديم واجب الإغاثة الإنسانية في الكوارث التي فتحت مساحات الوهم بأن سورية ستقلب موقفها من التطبيع، وذلك تعبير عن جهل بمكانة سورية في الاستراتيجيات الكبرى ولأن رفض الكيان الإسرائيلي من الثوابت التقليدية السورية. ونوّهت خوست بأن صخب الزلزال لا يخفي الحقائقَ الجديدة وكأننا مرة أخرى في لحظة صياغة المصائر الكبرى ونحن الشهود والمشاركون في انتقال التاريخ الإنساني إلى زمن جديد لن تتصدره الولايات المتحدة، بل دول متنوعة الألوان منها سورية لتخلص إلى أن السوريين دفعوا دماءهم وأوجاعهم وبنيتهم التحتية ثمن رؤيتهم الاستراتيجية الصحيحة التي ميّزت الصديق من العدو، وقد شاركوا في كسر مشروع الشرق الأوسط الجديد وأنه في الحرب الدامية والسياسة والمناورات والاتفاقيات تسهل روسيا والصين لدول متنوعة قرارها المستقل، لذلك استطاع الخليج في الحرب على النفط برأيها اختيار مصالحه، وتلامح له التحرّر من النهب الأميركي، ولعله عرف أنه دفع أمواله في حروب أميركا وإسرائيل التي صوّرت له أعداء يفترض أن يكونوا حلفاءه.
يُذكر أن المحاضرة كانت باكورة تعاون اتحاد الكتّاب العرب مع الرابطة السورية للأمم المتحدة، وقد أدار الحوار فيهاد. إبراهيم سعيد رئيس الرابطة.