لاعب النرد
أحمد علي هلال
يجهرُ الشاعر سيرته بالقول: “من أنا لأقول لكم من أنا، أنا لاعب النرد أربح حيناً وأخسر حيناً آخر”.. ليوزع هويته وعلامته الفارقة “لاعب النرد”، لكنه يذهب أكثر ليمتحن اللغة بشرارة ثقافة هائلة زاخمة بإرثها البلاغي في الجملة المرسلة المتصلة بمكامن الرؤيا.. إنه الشاعر محمود درويش الذي ظلّ في زمن الشعر وأحاجيه ومسراته العالية، وهو الذاهب إلى أبدية تليق به، فميلاد شاعر هو حياة قصيدة أخرى أكثر انفتاحاً على قول شعري تعالق مع أزمنة الكتابة ومكابداتها الضارية، في ممكنات الجمال ومجاز إنسانية الكلمة لتصبح وطناً وكينونة طليقة يعبر القرّاء من خلالها إلى ذلك الزمن الذي حملت فيه القصيدة سيرتين باهرتين: الإنسان/ والقضية، ذهاباً إلى وردة المجاز.. حقاً ما اسم الوردة؟ كما تساءل ذات يوم روائي عالمي كان اسمه امبرتو ايكو في رواية ساحرة، لكن درويش في مجازاته الأخرى يعطي للورد غير اسم، هو الرغيف والقمح والبرتقال، هو مكابدة النسيان، حيث اندغام سيرة الشخص بأرض الكلام، لينغرس كما نشيد تصحو له الصباحات فتخفق في قلوب عشاقها، يولد الشاعر لتولد آلاف القصائد مشبعة بالنهارات الآتية، من جرح في اللغة والقلب والمكان، إلى أمداء واسعة لتأويل مازال يخصب عبارتنا، ومازلنا في إثر الدرويش لنقرأ أزمنة الشعر عندما حمل شعلة الأولمب، ودفع بالنرد على سطح اللازورد، ليست تلك محض غواية شاعر ولد ورحل ليولد مرات عدة في ذاكرة قارئيه، الذين اقتسموا رغيف الجمال وتذوقوا به الزعتر البري.. هل كان طيفاً عابراً – ذلك الشاعر – الذي ظلّ في إثر سؤال الكينونة، ليؤرّخ لصيرورات الروح ويردها إلى الشجر الواقف هناك كثيفاً في الظلام، ويخيط المعنى لوردة القلب الغافية، وكيف تتصل هذه الوردة بذاكرة عشاق الأرض لتستقيم القصيدة في مهب شغف كوني، مازال يراودها حتى تصير مثل عرائس المروج، وتقطر عطراً للتراب، تراب جُبل بأرواح من سبقوا؟.
كيف ينهض وطن على اتساعه، ليعبر الحالمون في صباحاتهم العالية، لا صمت هنا للحكايات الأخيرة في الموت والميلاد والانبعاث وتغيّر المقام، إذ اللغة – ذلك الكائن – الجمالي مازالت تبوح بأسرارها العالية، فإلى أين يذهب الشعراء؟!.