الحراك السوري.. مسارات جديّة لحقبة جديدة
أحمد حسن
من الواضح للجميع أن المنطقة تمور، كما العالم بأسره، على سطح مقارباتٍ ساخنة لحقبة جديدة، وإذا كان الرئيس بشار الأسد قد رسم خلال زيارته، قبل أيام عدّة، إلى موسكو ملامح هذه الحقبة بالنسبة لسورية، فإنه، بزيارته أبو ظبي بالأمس، كان ينقل بعض هذه الملامح إلى حيّز التطبيق العملي بما يعنيه هذا الأمر من حضور تفاصيل وتفكيك عوائق للبدء باجتياز خطواتٍ محدّدة وواضحة، الأمر الذي يشير إلى أن الأيام القادمة – القريبة لا البعيدة – ستحمل ما لا يمكن وصفه بالمفاجآت الكبيرة بقدر ما يمكن القول إنه سيكون نتاجاً طبيعياً لهذا “الغرس” السياسي الدؤوب.
فإضافة إلى حمولة “الشكر والامتنان”، التي تنضح بها زيارة أبو ظبي، لدور الإمارات الإنساني الكبير في مواجهة كارثة الزلزال “حيث لم تنقل الطائرات الإماراتية المساعدات العاجلة فقط، بل نقلت عميق الإحساس تجاه الشعب السوري والتضامن معه في محنته”، كما قال الرئيس الأسد، كان واضحاً تشديد الطرفين على تقاطع رؤيتهما “في ضرورة تمتين العلاقات الثنائية بين الدول العربية وصولاً إلى العمل العربي المشترك الذي يشكّل الانعكاس المنطقي لما يجمع بين هذه الدول وشعوبها ويحقق مصالحها”، وهذا بعضٌ من بيت القصيد لا كلّه، وخاصة أن الرؤية السورية تجد، كما قال الرئيس الأسد، “أن التنافر وقطع العلاقات هو مبدأ غير صحيح في السياسة، وأن الطبيعي أن تكون العلاقات بين الدول العربية سليمة وأخوية”.
وإذا كان هذا “بعضاً” من ملامح زيارة أبو ظبي، لأن عملية الإحاطة بكل هذه الملامح لم تزل مبكرة، فإن ملامح زيارة موسكو تجاوزت، على الرغم من ادّعاءات “البعض”، موضوعاً محدّداً مثل العلاقات السورية التركية، إلى “تحديد” دور سورية في قلب العالم القادم ومكانتها بالنسبة إلى قواه الفاعلة، التي أراد هذا “البعض”، وبنيّة سيئة، وضع دمشق في خانة المتلقّي السلبي والخاضع لتقلبات الضرورات السياسية وألاعيبها ومستلزماتها أيضاً، فكانت المفاجأة – بالنسبة لهم لا لمَن يعرف سورية جيداً – أن الزيارة شكّلت، في توقيتها وصورتها الرسمية ومضمونها الغني، فرصة لتأكيد الثوابت السورية الوطنية كأولوية تعلو ولا يُعلى عليها، وبالتالي لم يجد، هذا “البعض” مرة جديدة، سوى “التشبّث” بقصة العلاقات السورية – التركية، فرصاً وعوائق، كي يلقوا بمسؤولية ما يرونه من تعثّرها وتأخّر انطلاقتها على الجانب السوري بحجّة أنه يضع شروطاً على اللقاء مع أنقرة.
والحال أن سوء النية عند البعض والخوف من ثبات الموقف السوري عند البعض الآخر، لأنه ثبات كاشف لعقم رهاناتهم كما لتبعيتهم الفاضحة، هما ما يقف خلف هذا الخلط الفاضح بين مفهومين مختلفين ومتناقضين أوّلهما الشروط التي يضعها طرف ما قبل أي لقاء أو اتفاق سياسي، وهذا ما يمكن تعديله تنازلياً أو تصاعدياً، وثانيهما المبادئ الوطنية الواضحة والثابتة التي لا يمكن جعلها، وتحديداً لدى السوريين، وتحت أي ظرف أو ضغط، موضع مساومة وبالتالي لا تخضع لتعديل أو إلغاء.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الزيارتين، وما سيليهما من عمل سياسي دؤوب، ترسمان ملامح القادم من الأيام في عالم يتغيّر بتسارع مضطرد رغم عدم قدرة البعض، أو إرادته أو مصلحته، على وفي الاعتراف بذلك.
بيد أنه، وكما في كل حالة تاريخية مماثلة، تكون بعض صور “القادم” ليست جديدة وغير مسبوقة بالمطلق، بل هي استعادة خلّاقة ومتجدّدة لما مضى في تأكيد لحقيقته الراسخة والثابتة، وأهم هذه الصور المستعادة تلك التي حاول “البعض” تغييبها وطمسها تحت أطنان من السلاح والمال والإعلام الموجّه، وهي التي تقول وبالفم الملآن إن سورية ليست أرض العروبة وقلبها فقط، بل هي أيضاً مختبرها الدقيق والصادق الذي يُقاس به وضع العرب وصحّتهم السياسية والحضارية أيضاً.