قمة تهز كيان الولايات المتحدة
هيفاء علي
لا يمكن اعتبار مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سوى حيلة دعائية من قبل العصبة الأنغلو ساكسونية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. ومن المفارقات أن المحكمة تحركت عشية الذكرى العشرين للغزو الأنغلو ساكسوني للعراق، عام 2003، والذي انتهى إلى ارتكاب جرائم حرب مروعة، لكن “قضاة” لاهاي صموا آذانهم.
تعترف واشنطن ولندن الآن بأن غزو عام 2003 كان غير قانوني واستند إلى مزاعم كاذبة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى تعتبر زيارة الدولة إلى موسكو التي قام بها الرئيس الصيني مؤخراً، حدثاً ليس له جوانب دراماتيكية فحسب، بل من المؤكد أنه أعلن تكثيف شراكة “بلا حدود” بين القوتين العظميين، بينما كانت الزمرة الأنغلو ساكسونية تراقب بقلق المناقشات التي جرت في موسكو، حيث قررت موسكو وبكين تشكيل جبهة مشتركة لدفن الهيمنة الأمريكية.
في السياق، تتجاوز الصين القدرة الإنتاجية المشتركة للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وبالمثل، أثبتت روسيا نفسها كأكبر دولة حائزة للأسلحة النووية في العالم، متفوقة على الولايات المتحدة من حيث كمية ونوعية التسلح. وعليه، يبدو أن العقل الأمريكي أدرك أنه لا يمكن هزيمة روسيا في أوكرانيا، ووفقاً لتقرير صادر عن مجلة “بوليتيكو” فإن الناتو في وضع حرج للغاية فهو بحاجة إلى استثمارات ضخمة للحاق بركب صناعة الدفاع الروسية، لكن الاقتصادات الأوروبية المتعثرة لها أولويات رئيسية أخرى تتمثل في البقاء على قيد الحياة، ومحاربة الاضطرابات الاجتماعية المتزايدة.
لقد ثبت أن فكرة هزيمة روسيا في حرب بالوكالة في ظلّ ظروف “العقوبات الجهنمية” كذبة، وأكبر دليل على ذلك هو انهيار البنوك الأمريكية، في حين أن الاقتصادات الأوروبية مهدّدة بالركود، وقد تجلّى السخط الأمريكي في رصد طائرات “غلوبال هوك” الأمريكية بدون طيار بانتظام فوق البحر الأسود في السنوات الأخيرة، ورصد إحداها قرب شبه جزيرة القرم في 14 آذار الماضي، والتي تمّ تعطيل جهاز الاستقبال الخاص بها عند اقترابها من نظام المجال الجوي الروسي المؤقت الذي تمّ إنشاؤه للعملية العسكرية الخاصة بالقرب من شبه جزيرة القرم، والذي أخطرت موسكو على النحو الواجب جميع مستخدمي المجال الجوي الدولي وفقاً للمعايير الدولية، وحذّر السفير الروسي في واشنطن منذ ذلك الحين، من أنه إذا لم تسعَ موسكو إلى التصعيد، فإن أي هجوم متعمد على طائرة روسية في مجال جوي محايد سوف يفسّر على أنه “إعلان حرب مفتوحة ضد أكبر قوة نووية”.
وعليه، إذا كانت الولايات المتحدة قد خطّطت لحادث الطائرة بدون طيار لاختبار ردّ فعل روسيا، فإن الأخيرة أعطت إجابة لا لبس فيها، وحدث كل هذا في الفترة التي سبقت زيارة الرئيس شي مباشرة. كما أن الموقف الأمريكي المستهجن المعلن بشأن قرار المحكمة الجنائية الدولية، هو أن واشنطن ليست فقط لا تعترف باختصاص هذه المحكمة، ولكن إذا تمّ القبض على مواطن أمريكي أو تقديمه إلى المحكمة الجنائية الدولية، فإنها تحتفظ بالحق في استخدام القوة العسكرية لإنقاذ المعتقل.
بالإضافة إلى ذلك، هدّدت واشنطن بالانتقام من أي دولة تتعاون مع مذكرة المحكمة الجنائية الدولية ضد أي مواطن أمريكي، حيث أكدت إدارة جورج دبليو بوش بشكل قاطع أن هذه هي سياسة الولايات المتحدة تجاه المحكمة، في سياق جرائم الحرب المروعة التي ارتكبتها الزمرة الأنغلو أمريكية في العراق، ولم تغيّر الولايات المتحدة رأيها أبداً، والسؤال المطروح هو: من نظم مذكرة الاعتقال هذه؟.
لقد تمّ ترهيب قضاة المحكمة الجنائية الدولية، المعرضين بشدة للابتزاز، لأنهم يتلقون رواتب مغرية تجعلهم على استعداد لتقليص الأمور إذا كان ذلك سيجعلهم يمدّدون فترة ولايتهم في لاهاي، وهذه دراسة حالة أخرى للتدمير التدريجي لمنظومة الأمم المتحدة من قبل الزمرة الأنغلوسكسونية في السنوات الأخيرة.
من الواضح أن العصبة الأنغلو ساكسونية تخشى أن تخلق الصين مفاجأة أخرى، كما فعلت من خلال التوسط في الصفقة السعودية الإيرانية الأخيرة، وقد أصدرت بكين بالفعل “خطة سلام” لأوكرانيا، وهي عبارة عن برنامج من 12 نقطة لـ”حل سياسي للأزمة الأوكرانية”، لكن الغرب اختار تجاهلها. وبالتالي، ليس من المستغرب أن يشعر جو بايدن بجنون بشأن استعداد الصين للتوسط بين موسكو وكييف، فهو وزيلينسكي محاصران في عناق مميت: قضية الفساد التي تنطوي على أنشطة ابنه هانتر بايدن في كييف، حيث له دور في شركة الغاز “بورسيما” القابضة المحدودة، معلقة مثل السيف المسلط على حياة والده السياسية، بينما يكافح زيلينسكي أيضاً من أجل سياسة البقاء ويتجرأ بشكل متزايد على التصرف بمفرده.
يتجاهل زيلينسكي الشكوك الغربية حول الحكمة من الاحتفاظ ببلدة باخموت على خط المواجهة في دونباس، ويغرق ويحافظ على دفاعه عن الاستنزاف الذي من المرجح أن يستمر إلى الأبد. وبحسب مجلة “بوليتيكو”، من الواضح أن بايدن يتصرف مثل قطة على سطح من الصفيح الساخن، فهو لا يستطيع أن يترك زيلينسكي يرحل، ولا أن يحبس نفسه في حرب لا نهاية لها في أوكرانيا، كما يدعوه مضيق تايوان إلى مصير أشد خطورة.
لقد أصبح موقف بكين أكثر تشدداً في الآونة الأخيرة، وازدراء الولايات المتحدة من فخر الصين الوطني من خلال إسقاط منطادها الجوي الذي لم يؤد إلا إلى زيادة انعدام الثقة، وقد اختار شي روسيا في أول زيارة خارجية له في فترة ولايته الثالثة، على الرغم من الحرب في أوكرانيا.
قالت وزارة الخارجية الصينية، عند إعلانها عن زيارة شي لروسيا، أنه مع دخول العالم فترة جديدة من الاضطراب والتغيير، كعضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وكشخص مهمّ، فإن أهمية وتأثير العلاقات الصينية الروسية يتجاوزان الإطار الثنائي. وبناءً على ما تقدم، يمكن القول إن العالم شهد خلال الشهر الماضي بعض التطورات الجيوسياسية المدهشة، ففي شباط الماضي انتقدت الصين علناً الهيمنة الأمريكية، وأطلقت مبادرة أمنية عالمية، واقترحت خطة سلام لأوكرانيا. في 10 آذار الجاري توسطت الصين في اتفاق تاريخي أعاد العلاقات بين السعودية وإيران. وفي 15 آذار، فرشت موسكو البساط الأحمر للسيد الرئيس بشار الأسد. بعد ذلك، وصل الرئيس الأسد والسيدة الأولى أسماء الأسد إلى الإمارات، بينما وقعت إيران والعراق أيضاً اتفاقية تعاون أمني لإنهاء النشاطات التخريبية التي ترعاها وكالة المخابرات المركزية ضد إيران. كما دعا الملك السعودي الرئيس الإيراني لزيارة الرياض.
على مدى الثلاثين عاماً الماضية، تعاملت الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط على أنه ساحتها الخلفية، وقبل عشرين عاماً غزت العراق بشكل غير قانوني، وتسبّب في مقتل مئات الآلاف من العراقيين وتسبّبت بنشر الفوضى لعقود، إلا أن الصين غيّرت، من خلال الوسائل السلمية، التوازن في الشرق الأوسط في شهر واحد فقط.
أثناء زيارة الرئيس الصيني لموسكو، تمّ نشر مقال للرئيس بوتين في صحيفة الشعب الصينية اليومية، بينما نشرت وسائل الإعلام الروسية مقالاً للرئيس شي. كل ذلك ولد مخاوف الولايات المتحدة من أن تحظى المبادرة الصينية بدعم الأطراف المتحاربة، وهي التي دعت إلى وقف إطلاق النار والشروع بمحادثات السلام، والأمر متروك لأوكرانيا لتقرّر، بينما تشعر الولايات المتحدة بجنون من أن السلام قد يتحقق بالفعل.