أوروبا ضحية قانون خفض التضخم الأمريكي
ريا خوري
ما زالت القارة العجوز تعاني بشكل غير مسبوق من زيادة فجوات الاستثمار التي تحتاج إلى جهود كبيرة لسدّها، مع العلم أن معظم صنّاع السياسة والاقتصاد الاستراتيجيين الأوروبيين يعتقدون أن الوقت قد حان للقيام بإجراء حزمة تحفيز أخرى واسعة النطاق على الرغم من التضخم النقدي الهائل ونمو الدين العام.
لقد عبّر عدد كبير من المختصين في الشؤون المالية والاقتصادية، وعدد من المراقبين أنهم مخطئون، لأنّ من شأن التحفيز أن يجبر أهم البنوك في أوروبا، وهو البنك المركزي الأوروبي، على زيادة أسعار الفائدة بشكل أكبر وأسرع، وما يحتاجونه بدلاً من ذلك هو الدعم الموجّه من قبل مؤسسات، وتعبئة الموارد الضرورية اللازمة للقطاع الخاص في مشاريع التنمية المستدامة، وأهمها الاستثمار في القطاعات الخضراء التي من شأنها تعزيز المرونة والقدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي على أوسع نطاق.
الجدير بالذكر أنّ أوروبا كانت قد شهدت الكثير من الخلافات الجوهرية حول التهديد الجديّ الذي يمثله قانون خفض التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك، وعلى الرغم من كل المخاوف وحالات القلق التي أثارها، فإن القانون في النهاية عبارة عن خطوة أولى يعتقدون أنها في الاتجاه الصحيح -حسب الاعتقاد- ويوفر دعماً كبيراً للقطاعات الخضراء، حيث هناك حاجة ماسة وضرورية لمزيد من الاستثمارات.
من المؤكد أن بعض مواد قانون خفض التضخم الأمريكي الجديد تطرح تحديات أساسية وجوهرية، من أهمها أن معظم تلك الفوائد تقتصر على المنتجين الذين ينادون دائماً بصوت عال “صُنع في الولايات المتحدة الأمريكية”، ويستثنون بالطبع المصنّعين الأوروبيين الفائقي القدرة والإمكانيات الذين لا يتلقون الإعانات نفسها من الاتحاد الأوروبي. وبالتالي قد يزداد خطر انتقال بعض مصانع المعدات والأدوات اللازمة وإنتاج الهيدروجين الأوروبية إلى الولايات المتحدة، ما يضاعف محنة قطاع الابتكار والاختراع في الاتحاد الأوروبي الذي يعاني أساساً من نقص التمويل والإرادات. لذا، فإن بعض أحكام القانون الجديد يمكن أن تكبح جماح سلسلة التوريد الناشئة للتكنولوجيا الخضراء وتقف عائقاً في وجهها، ما يعود بالفائدة للولايات المتحدة على حساب أوروبا.
في المقابل، ومن خلال إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع الشركاء الأمريكيين، واستهداف الاستثمارات الخاصة للقطاعات الصحيحة، يمكن لأوروبا تحييد الأجزاء الإشكالية والمعيقة من قانون خفض التضخم، فحوارات كهذه بين جانبي الأطلسي تعتبر أمراً بالغ الأهمية والضرورة، وهم بحاجة حقيقية ماسة إلى إقناع الولايات المتحدة بإعادة النظر في بعض أحكام قانونها الجديد الصارم، وخاصة تلك التي تتعارض مع المبادئ الراسخة للمنافسة المفتوحة.
ومع ذلك، من غير المقبول أن تقدم أوروبا نفسها كضحية لمجرد مواصلة المحادثات مع الولايات المتحدة، وعلى الأوروبيين قبول حقيقة أن العديد من فجوات الاستثمار الحالية الكبيرة تقع خارج نطاق قانون خفض التضخم المسموح به، وهو ما أكده التقرير الرئيسي السنوي لبنك الاستثمار الأوروبي، بأنّه على مدى العقد الماضي، استثمر الاتحاد الأوروبي اثنين بالمائة أقل سنوياً في تحسينات الإنتاجية مقارنة بمنافسيها. لذلك، يرى الكثيرون أنه يجب أن يُنظر إلى القانون على أنه تنبيه شديد اللهجة لمعالجة النقص الحاصل في الاستثمار، فأوروبا بحاجة ماسة إلى توجيه المزيد من الأموال نحو الطاقة المتجدّدة النظيفة الأوروبية، وتصنيع التكنولوجيا النظيفة والرقمنة، وهي منتجات مطلوبة في عصرنا الحالي، وكلها أساسات ضرورية للتحول الأخضر والقدرة التنافسية في المستقبل القريب والبعيد.
معظم المتخصّصين يعتقدون أنه ربما تبدو تلك المهمة عصيبة وقاسية، ولكن في الحقيقة الأوروبيون يمتلكون بالفعل معظم الأدوات التي يحتاجونها للنجاح، ومنها مجموعة الحلول الصريحة والواضحة الواسعة التي يقدمها بنك الاستثمار الأوروبي لتخفيف المخاطر والتمويل طويل الأجل، والتي يمكن أن تجعل الابتكارات والاختراعات الواعدة أكثر قبولاً من وجهة نظر المستثمرين في القطاع الخاص وهو أمر مهمّ بالنسبة إليهم.
لقد سمحت سياسة تجميع رأس المال المتبعة في بنك الاستثمار الأوروبي باختراقات وتجاوزات كبيرة في علوم الحياة المتنوعة، وقطاع الطاقة النظيفة، والحوسبة الكمومية، وتقنيات الأقمار الصناعية، ويمكن بهذا الصدد أن ترسل أوروبا إشارات قوية وصريحة إلى السوق، مفادها أن مؤسسات وحكومات الاتحاد الأوروبي على استعداد كبير لتعزيز التقنيات الحديثة والتكنولوجية فائقة الذكاء الصناعي من خلال الاستثمار المبكر والفعّال.