الصين في مواجهة الاحتواء وإعادة الاصطفاف الجيوسياسي
سمر سامي السمارة
عندما بدأت الولايات المتحدة الانسحاب استراتيجياً من الشرق الأوسط، وتحويل تركيزها نحو جنوب شرق آسيا، وأوروبا الشرقية لاحتواء منافستيها، الصين وروسيا، أصبحت الصين التي عمّقت صداقتها التقليدية مع دول الشرق الأوسط، وأقامت علاقات تعاون استراتيجي قائمة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة، الخيار الطبيعي والصحيح للعديد من هذه الدول.
كانت الصين تضع بالفعل بصمتها الاقتصادية ببطء في الشرق الأوسط، ويعتقد مراقبون أن اقتصادها المتنامي قد يصبح سبباً إضافياً لدول الشرق الأوسط -بما في ذلك إيران والسعودية- للتحالف مع بكين لتعزيز أهدافها التنموية، خاصة وأن الصين تعتبر واحدة من الدول القليلة في العالم اليوم التي تمتلك القدرة على التحدث إلى جميع الأطراف، أو المتنافسين الرئيسيين في الشرق الأوسط مثل إيران والسعودية، وتيسر إحلال سلام دائم.
في المقابل، لا تملك الولايات المتحدة القدرة على الاضطلاع بمثل هذه المهمة، ففي حين أن لديها علاقات عميقة مع “إسرائيل”، تدهورت علاقات واشنطن مع السعودية منذ أن أصبح جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة. لذا يمكن القول، إن قدرة واشنطن على تشكيل الجغرافيا السياسية الناشئة في الشرق الأوسط -وخاصة في أعقاب الاتفاق الإيراني السعودي الذي تم توقيعه في العاصمة الصينية بكين، ومن خلال وساطة ورعاية صينية كاملة– تكاد لا تكون ذات صلة بالواقع اليوم.
لذلك، لن يكون من الخطأ القول بأن “صنع السلام” في الشرق الأوسط أصبح وثيق الصلة في العلاقة المتنامية مع الصين، خاصة وأن الولايات المتحدة عملت لعقود على خلق الانقسامات واستغلال موارد هذه البلدان، فعلى سبيل المثال، كانت دول الشرق الأوسط تدفع للقوات الأمريكية المنتشرة على أراضيها “لحمايتها” من نفس “الأعداء” الذين ستخلقهم الولايات المتحدة نفسها لمصالحها المادية.
في حين أن السعودية هي مثال كلاسيكي على حماقة بايدن في تنفير الحلفاء، فإن مقاومة إيران للعقوبات الأمريكية هي فشل كلاسيكي لمعتقدات الولايات المتحدة الراسخة بقدرة السلاح الذي تلوح به دائماً لإخافة أعدائها، أي العقوبات الاقتصادية والمالية. فقد كانت محصلة هذه السياسات غير الحكيمة هي الانفراج الإيراني السعودي من خلال توقيع اتفاق لاستئناف العلاقات المقطوعة منذ سنوات.
في الحقيقة، يمثل الاتفاق، كسراً لمحاولات العزلة الإقليمية والدولية التي تحاول تل أبيب وواشنطن فرضها على إيران، وهو ما قد يدفع واشنطن إلى العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني. كما يمكن لهذا الاتفاق إرباك الحسابات الإسرائيلية فيما يخصّ صراعها مع إيران، فضلاً عن أنه سيدفع بإعادة ترتيب خارطة الصراعات والتحالفات في المنطقة، وسوف يعيد كلّ طرف حساباته بما قد يؤدي إلى إعادة رسم خطوط الصراعات والتحالفات بما يتماشى مع ما جاء بالاتفاق.
استفادت الصين من علاقاتها الاقتصادية الوثيقة مع كلّ من طهران والرياض، من أجل رعاية المفاوضات بينهما، وهي المرة الأولى التي تدخل فيها بكين بشكل مباشر على خط الصراعات السياسية في الشرق الأوسط. ولذلك فإن ما قامت به الصين من رعاية وهندسة للاتفاق بين طهران والرياض، يمثل تحولاً نوعياً، ليس في بنية النظام الإقليمي فقط ولكن النظام الدولي أيضاً.
يرى مراقبون أن دخول الصين على خط الصراعات في المنطقة، ومن باب أكبر دولتين في منطقة الخليج العربي، أي السعودية وإيران، يعني تدشين نظام إقليمي وعالمي جديد ليس لواشنطن اليد العليا -كما كانت عليه الحال طوال أكثر من نصف قرن- في رسم ملامحه، وهو ما يمثل أيضاً تهديداً مباشراً لنفوذ الولايات المتحدة ليس فقط في المنطقة وإنما حول العالم.
مع خروج الولايات المتحدة من المعادلة، لابد لنا من الإشارة إلى أن ما تقوم به الصين في الشرق الأوسط هو جزء من إستراتيجيتها لمواجهة الاحتواء، فمنذ إطلاق إدارة أوباما لمفهوم “محور آسيا” وسياسة الاحتواء، كان الصينيون يستثمرون بشكل فعلي في طرق لخلق احتمالات بديلة، فكان حضور بكين القوي من خلال مبادرة الحزام والطريق. واليوم، حضور بكين العميق في الشرق الأوسط -بما في ذلك السعودية وإيران- هو نتيجة مباشرة لفكرة الاحتواء المضاد من خلال مبادرة الحزام والطريق.
تتمتع الصين بروابط اقتصادية حيوية مع كلتا الدولتين، وتدرك بكين ضرورة تفكيك الانقسامات التي أنشأتها الولايات المتحدة داخل الشرق الأوسط لتجسيد أهدافها المادية، والمتمثلة بالتجارة من وإلى الصين وأوروبا التي تتقاطع مع جميع البلدان الواقعة بينهما.
يدّعي بعض النقاد الجيوسياسيين الغربيين أن الاتفاق الإيراني السعودي مجرد نتيجة لـ”العزلة” التي كانت تواجهها إيران، الأمر الذي يطرح تساؤلاً: إذا كان هذا الادعاء صحيحاً، فما الذي سيفسّر قرار السعودية بأن تكون جزءاً من هذه الاتفاق؟.
في الحقيقة، إذا كانت إيران “معزولة” حقاً، فهو نتيجة للتطبيق الممنهج للولايات المتحدة وحلفائها، لكن إيران لم تكن “معزولة” كما يعتقد صانعو السياسة الغربيون، فعلى الرغم من الضغط الاقتصادي الهائل الذي يحاول الغرب فرضه، لكنها كانت ولا تزال قادرة على الحفاظ على روابط حيوية مع القوى الكبرى في العالم مثل روسيا والصين والدول الإقليمية، لذلك، كان على النقاد الغربيين أن يقرأوا ما يحدث في الشرق الأوسط على أنه إعادة الاصطفاف الجيوسياسي الرئيسي المدعوم بتقارب عميق للمصالح بين مجموعة من المناطق الإقليمية والدول، مع قوة عالمية تسعى جاهدة لبناء نظام عالمي جديد بديل.