جماليات المثاقفة الحضارية.. الاستشراق الروسي أنموذجاً
حلب- غالية خوجة
أثرت وما زالت تؤثر الثقافة العربية والإسلامية والشرقية في العالم، ميتافيزيقياً، أنثروبولوجياً، فلسفياً، معرفياً، علمياً، أركيولوجياً، نفسياً، أدبياً، روحياً، ثقافياً، مثل القرآن الكريم وألف ليلة وليلة والأبجدية الفينيقية بصوامتها وصوائتها، والمتنبي ورحلات السندباد وابن رشد وابن النفيس ورباعيات الخيام والشعر الأندلسي والملاحم والأساطير الشرقية والتراث الشرقي المادي والمعنوي كفنون العمارة وطريقة الحياة، وهذا حال أغلب الكتّاب والرحالة والعلماء والفنانين الموسيقيين والتشكيليين والمسرحيين والمفكرين والفلاسفة المستشرقين، الذين اعتمدوا على السفر والإقامة والدراسة والترجمة والأدب المقارن والموسيقا والمسرح والفنون البصرية، مجاديفَ هامة للتعايش والتسامح والحوار بين ثقافات الشعوب.
الاستشراق استعراب بمفهوم ما
والاستشراق (Orientalism)، بمفهوم ما، هو الاستعراب والتعرف على البنى الثقافية والتاريخية والحضارية ودراستها والتوغل في أعماقها، لغايات مختلفة، ثم أصبح علماً يُدرس، وحركةً جمالية فنية إنسانية، ولذا لن نستغرب من أرسطو حين زار حلب ليستشفي بهوائها العليل، ولا من مالارميه الشاعر الفرنسي الذي تجول في أرجائها وألهمته العديد من القصائد، وسيشدنا المستشرقون العالميون إلى تجاربهم المختلفة، مثل الفرنسي لويس ماسينيون وعلاقته بالعالم الروحي وانجذابه إلى الحلاج، والفرنسي مكسيم رودنسن، وعالم الآثار (أندريه بارو)، إيرنست رينان الباحث في تاريخ اللغات الشرقية، والفيلسوف مونتيسكيو، وفيكتور هوغو، وفلوبير، وشاتوبريان وكتابه من (باريس إلى القدس/1911)، وماريو بوا ومؤلفه (ثلاثية إشبيلية)، ولا يخفى تأثر الفيلسوف الإيطالي توما الأكويني بالشرق، ولا ولع كل من الإنكليزي ويليم موير، والألماني كارل بروكلمان، وعميد الاستشراق اليوغسلافي (فهيم باياكتاروفيتش)، والإيطالي كارلونيلينو، ودانتي أليغييري المغرم برسالة الغفران للمعري، والجنرال الروسي بوغوسلافسكي أول من ترجم القرآن الكريم مباشرة من العربية إلى الروسية، كما ترجمه نيكولاييف بنسخة أخرى صدرت في موسكو 1901، وكاظم بك محقق مخطوطة اليعقوبي، والأكاديمي الروسي المستشرق روزن فيكتور رومانوفيتش وأعماله المختصة بتاريخ الثقافة الشرقية مثل الشعر العربي القديم، التاريخ العربي القديم، والعلاقة الثقافية بين الديانتين المسيحية والإسلامية، وإيغور دياكونوف مترجم ملحمة جلجامش، وبرتلس الحائز على جائزة الدولة الروسية التقديرية وله دراسات في الأدبين العربي والفارسي، والشاعر غورافليوف الذي ترجم (مختارات من الشعر العربي في مصر) ومنها قصيدة رثاء تولستوي لأحمد شوقي، ولا تقل تجربة الأكاديمي الروسي بارتولد فاسيلي فلاديميروفيتش عن معاصريه، وكذا تجربة كريمسكي الذي تعلم العربية والفارسية وأسس مكتبة في جامعة موسكو، وتجربة فرين الروسي مؤسس ومدير المتحف الآسيوي التابع لأكاديمية العلوم، وله أعمال عن المصادر العربية لدراسة تاريخ روسيا القديم، وأليكسي فاسيليف الباحث المؤرخ المستشرق ومدير معهد الدراسات الأفريقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، وغيرهم من المهتمين بالشرق لغة، وعادات، وتراثاً، وتاريخاً، وحضارة، وثقافة، وحياة.
بوابات الاستشراق الروسي
تعود بذور تاريخ الاستشراق إلى الماضي البعيد، من خلال التحاور الإنساني على هذه البسيطة، لكنه اتخذ في روسيّا، شكلاً خاصاً منذ البداية لأنه استشراق قائم على التعرف إلى التراث الثقافي الإسلامي، أي أنه غير استعماري، هدفه الخير والجمال والحوار الحضاري، وبذلك تكون المدرسة الاستشراقية البطرسبورغية قد تغلبت على المدرسة التقليدية الدينية، واستمرت كونها قائمة على العلمية المعرفية الثقافية والتطلعات الإنسانية المشتركة، ومن هذه المدرسة، نذكر بعض الأسماء: سينكوفسكي المستشرق الروسي الذي ترأس قسم اللغة العربية في جامعة بطرسبورغ، وانتخب عضواً مراسلاً 1848 في أكاديمية العلوم البطرسبورغية، وأشرف على إصدار مجلة (مكتبة القراءة)، وأصدر (قصص شرقية) و(مذكراتي عن سوريا)، وحرر مع تلاميذه القاموس الموسوعي، كما ساهم في ترجمة بعض الكتب من العربية إلى الروسية، ولقد أمضى زمناً بين لبنان وسورية ومصر، وهي البلاد العربية ذاتها التي زارها المستشرق جرجاس، وأضاف لها فلسطين، وناقش رسالة الدكتوراه في نحو اللغة العربية 1873، وأعدّ قاموس اللغة العربيةـ الروسي، ووضع فهرست كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني.
وتنتمي لهذه المدرسة المستشرقة بيجولفسكايا، خريجة كلية الاستشراق 1922، التي عملت في كل من المكتبة العامة، ومعهد الاستشراق، ودرست اللغة العربية في جامعة لينيغراد (بطرسبورغ)، ومن مؤلفاتها (العراق في القرنين الخامس والسادس الميلاديين/ العرب تجاه الروم والفرس).
وينضم لجوقة مدرسة بطرسبورغ الاستشراقية بوريس بيوتروفسكي العالم المعروف في مجال المصريات ومدير متحف الأرميتاج، وابنه ميخائيل بيوتروفسكي الباحث المستشرق، وعالم الآثار، والمترجم، الذي درس في مصر واليمن، وكتب دراساته عن الجزيرة العربية، عن مملكة سبأ وحمير، وتأريخ الإسلام، والنقوش العربية القديمة في الجزيرة العربية، وملحمة العرب وحكاياتهم القديمة، وألقى محاضراته في عدة جامعات عربية، ثم أصبح مدير متحف الأرميتاج عام 1992، وإضافة لدراساته الاستشراقية، اهتم بنشر الثقافة الفنية الروسية، وشارك في افتتاح فروع الأرميتاج في أمستردام وقازان.
بينما لمعت أسماء أخرى منتمية لمدرسة موسكو للاستشراق، منها بولديريف الذي درس اللغة العربية في جامعة موسكو، ثم أصبح عميدها، ثم رئيسها عام 1833، ترجم مختارات من الأدب العربي للروسية، وأصدر كتابين عن العربية، ومن تلاميذه المستشرق كاركونوف الذي ترجم قصائد للنابغة الذبياني.
ولا تخفى جهود بارانوف في الاستشراق، خصوصاً، وأنه خريج معهد لازاريف الذي أصبح من أهم المراكز العلمية لتدريس العربية في موسكو، وهذا المستشرق أعد القاموس العربي الروسي، وترجم مؤلفات الجاحظ.
ولن ننسى جهود سابلوكوف وإيلمنسكي وهما من مدرسة كازان المدينة التي أسست قسماً للغة العربية عام 1758، والتي ضمت جامعتها ـ التي تأسست عام 1804ـ حوالي 604 مخطوطات نادرة.
مكتشفو الأدب العربي
وضمن هذه المنظومة الرؤيوية الرائية، نلاحظ كيف يعتبر الروس التراث الشرقي والثقافة الشرقية جزءاً من تراثهم وثقافتهم، تبعاً لما قاله يوماً المستشرق الروسي بلوندين، وتبعاً للعديد من المؤشرات الواقعية، مثل تأسيس أول مطبعة عربية، أصدرت الكتب الدراسية بالعربية عام 1722، تلاها فكرة لومونوسوف بتأسيس كلية اللغات الشرقية 1754، ومعهد الاستشراق، ثم صدرت أول ترجمة لألف ليلة وليلة بالروسية 1763، وظهر أول كرسي للغات الشرقية في جامعة خاركوف 1804، وهو العام ذاته الذي صدر فيه مرسوم جامعي لتدريس اللغات الشرقية في المدارس العليا وتأسيس أقسام خاصة بها، وكانت المكانة الأولى للغة العربية، التي بدأت الجامعات الروسية بتدريسها مثل جامعة موسكو الحكومية التي حملت اسم المستشرق لومونوسوف، وفي جامعة بطرسبورغ، وكذلك في معهد الاستشراق الروسي في بطرسبورغ، ثم توالى تدريس اللغة العربية وآدابها وعلومها في مختلف أرجاء روسيا، وهذا ما يؤكده عميد الاستشراق الروسي إيغناتي كراتشكوفسكي، الذي زار سوريا ومصر وفلسطين واطلع على كتبها وعاد إلى روسيا ليعين أستاذاً للغة العربية، وأُطلق عليه: “مكتشف الأدب العربي الجديد”، وله دوره الفاعل في الإشراف على ترجمة ألف ليلة وليلة، كما أنه ترجم كليلة ودمنة، والسيرة الذاتية لطه حسين، وكتاباً عن الباحث المدرس للغة العربية في جامعة بطرسبوغ محمد عياد الطنطاوي، إضافة لذلك، ساهم في إعداد مجموعة الآداب العالمية التي كان يشرف على إصدارها مكسيم غوركي، وتقديراً لمكانته في هذا المجال، انتخب عضواً في أكاديمية الفنون السوفيتية/1921، وانتخب عضواً مراسلاً في المجمع العلمي العربي بدمشق/1923، وألّف كتاب (المخطوطات العربية.. ذكريات الكتب والناس/1945)، الذي كتب فيه عن تجربته في الاستشراق، وكيف لاحظ اهتماماً بالمنتج الثقافي الروسي سواء في المدارس التي افتتحتها الجمعية الروسيةـ الفلسطينية، أو المدارس التي افتتحتها روسيا في بلاد الشام، وكيف كانت كتب العديد من الأدباء والمفكرين الروس متداولة بين الناس، منها كتب تورغينييف، تشيخوف، مجلدات “المعرفة” ومجلة “نيفا”، نذكر أن لكبير المستشرقين كراتشكوفسكي دراسات وبحوثاً في الأدب العربي، منها عن الأخطل والمتنبي والمعري وأبو العتاهية وأبو الفرج الوأواء الدمشقي وتأريخ الأدب الجغرافي والأندلسي، وألّف كتباً أخرى، منها (تاريخ التأليف في الجغرافيا عند العرب/ إصدارات جامعة الدول العربيةـ1963)، (الكتّاب الروس في الأدب العربي)، (في الصحافة العربية في مصر)، (مع المخطوطات العربية/ نال جائزة الدولة السوفيتية 1951)، و(الأدب العربي في القرن العشرين)، الذي تطرق فيه لعدة أدباء عرب، منهم ميخائيل نعيمة، الذي وجده متأثراً بالأدب الروسي، وتحديداً، بآراء الناقد بيلينسكي، وكانت بين كراتشكوفسكي المسحور بالشرق وميخائيل نعيمة مراسلات، إضافة إلى صداقته مع العديد من الكتّاب العرب، مثل أمين الريحاني، جرجي زيدان، محمود تيمور، أحمد كرد علي الذي كان، حينها، رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق.
ثم، أصدرت أكاديمية العلوم السوفيتية 6 مجلدات تضم ما كتبه كراتشكوفسكي المعروف بعميد المستشرقين الروس، وشيخ المستعربين، وأستاذ العديد منهم، أمثال الشاعرة البروفسورة دالينينا، التي ترجمت المعلقات من العربية مباشرة إلى الروسية، وهذه الترجمة بحاجة لاستغوار لفظي ودلالي ونسقي وروحي ولغوي ومخيلتي وبيئي أيضاً، لكي تتحول أبيات شعراء المعلقات من العربية إلى الروسية، مثل معلقة كل من امرئ القيس، عنترة بن شداد، الأعشى، لبيد بن ربيعة، طرفة بن العبد.
واستمرت فاعلية الاستشراق، وتابعت وجودها في زمننا المعاصر، وازدهرت مع ما ترجمه المستشرقون الروس من العربية إلى لغتهم الأم لتبلغ 621 كتاباً في النصف الثاني من القرن العشرين، منها لكتّاب عرب، أمثال: نجيب محفوظ، محمود درويش، حنا مينه، الطيب صالح، د.علي عقلة عرسان، كاتب ياسين، يوسف إدريس، معين بسيسو، الطاهر وطار، محمد مهدي الجواهري.