“سيليكون فالي” .. أكبر عملية إفلاس تشهدها الولايات المتحدة منذ 15 عاماً
البعث الأسبوعية- هيفاء علي
لم يستفق النظام المصرفي الأمريكي من الضربة الموجعة بانهيار بنك “سيليكون فالي” الذي أعلن إفلاسه، لتكون أكبر عملية إفلاس تشهدها الولايات المتحدة منذ 15 عاماً. وبهذا الافلاس يخيم شبح الأزمة العالمية لعام 2008 على الأجواء إزاء ما تعرض له هذا البنك العملاق الذي يحتل المرتبة السادسة عشر في قائمة أكبر البنوك الأمريكية بأصول تبلغ 200 مليار دولار، صاحب الـ 17 فرعاً المنتشرة بولايتي كاليفورنيا وماساشوستس، وعشرات الفروع في كل من بريطانيا وكندا والهند والصين والدنمارك والسويد، هذا بجانب مئات الشركات الناشئة -لا سيما التكنولوجية -المتعاملة معه بشكل مباشر، وربما تكون الأكثر تأثراً بهذا الانهيار.
يرجع السبب الأول في الأزمة المالية العالمية 2007 -2008 التي اشتعلت شرارتها الأولى في أمريكا، وانتقلت منها إلى أوروبا وآسيا والخليج والدول النامية المرتبط اقتصادها بالاقتصاد الأمريكي، التي تعد الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير سنة 1929، إلى انهيار البنوك الأمريكية حين انهار 19 بنكاً بشكل متتالي، ما أدى في النهاية إلى تلك الكارثة التي ما زال القطاع المصرفي العالمي يعاني منها حتى اليوم.
شبح تلك الأزمة بدأ يحوم على الأجواء مع انهيار بنك “سيليكون فالي” وبنكين آخرين، فيما يذهب البعض إلى احتمالية أن تلتحق بهم بنوك أخرى تعاني من الأزمات ذاتها، وهو ما أنعش بورصة التحليل الاقتصادي.
وبحسب خبراء الاقتصاد الأمريكيين، كان سبب الانهيار المذهل هو الفساد والتهور المالي وضعف اتخاذ القرار، ومع ترديد خطة الإنقاذ المتحمسة للأثرياء في عام 2008، يطرحون السؤال التالي، إلى أي مدى سيستمر الأمريكيون في تحمل هذا الفساد؟.
إن انهيار بنك سيليكون فالي هو تتويجاً لسنوات عديدة من التهور المالي، وحقوق المساهمين وامتيازاتهم، واتخاذ القرارات السياسية الفاسدة، حيث يعد انهيار البنك ثاني أكبر فشل مصرفي في تاريخ الولايات المتحدة، والأسوأ منذ الأزمة المالية العالمية التي بدأت في الانخفاض في عام 2008. تأسس البنك في عام 1983، المؤسسة المالية الرئيسية لغالبية الشركات الناشئة في عصر المال الرخيص، والذي كان من الممكن أن يكون أحد عوامل انهيارها. كان العقد الماضي مريحاً بشكل خاص، حيث كان بنك الاحتياطي الفيدرالي إيذاناً ببدء عصر أسعار الفائدة المتدنية للغاية بعد الركود العظيم، كما كان النمو البطيء والبطالة المرتفعة من الاهتمامات الرئيسية للنخبة السياسية والاقتصادية، وكان يُعتقد أن أسعار الفائدة المنخفضة ستُترجم إلى تكلفة أقل للاقتراض، مما يؤدي إلى مزيد من الاستثمار، وخلق المزيد من فرص العمل. ولكن سارت الأمور نحو الأسوأ في أعقاب جائحة فيروس كورونا التاجي، عندما تجاوز التضخم البطالة باعتباره الشاغل السياسي والاقتصادي السائد اليوم.
بدأ الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة بسرعة، بمقدار 450 نقطة أساس في العام الماضي وحده. هذه المرة، كانت الفكرة أنه من خلال الحد من الاستثمار وزيادة الإنفاق من قبل الشركات والمواطنين العاديين، فإن بنك الاحتياطي الفيدرالي سيضع قيوداً على نمو الأجور وإنفاق المستهلكين ويحد من التضخم، كما كان له أيضاً أثر جانبي يتمثل في إغلاق صنبور التدفق المستمر لرأس المال الاستثماري الذي أبقى الشركات الناشئة، حتى الشركات الخاسرة، بعيداً عن الغرق، مما تسبب في انكماش كبير في قطاع التكنولوجيا، ما أثر على البنك الذي واجه فجأة أزمة من المودعين المدعومين برأس مال مخاطر.
لكن أخطر عنصر في رفع أسعار الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي بالنسبة إلى بنك “سيليكون فالي”، كان حقيقة أنه استثمر بكثافة في السندات الحكومية -التي تميل أسعارها إلى الانخفاض عندما ترتفع أسعار الفائدة والعكس صحيح -جزئياً لأنه لم يكن لديه الكثير لتشغيل المال الذي كان يدفعه له عملاؤه.
ووفقاً لـ آدم توز، المؤرخ البريطاني والأستاذ في جامعة كولومبيا، فقد كان هذا البنك يحصل على ما لا يقل عن مليار دولار لكل خمسة وعشرين نقطة أساس رفعها الاحتياطي الفيدرالي في الأسعار، دون استثمار أي شيء في صناديق التحوط لأسعار الفائدة، مما جعلها معرضة بشكل خاص لأجندة “باول” لمكافحة التضخم. الخسائر الناتجة تسببت في حالة من الذعر بين المودعين، والذعر سببه في جزء كبير منه شركة رأس المال الاستثماري العائدة ملكيتها للملياردير “بيتر ثيل”، التي اكتشفت أن مستثمريها يواجهون مشكلة في تحويل الأموال إلى حساباتها في بنك “سيليكون فالي”، فأمرهم بتحويلها إلى بنوك أخرى، وسحب جميع أموالهم تماماً. وفي نفس الوقت تقريباً، أصدرت نشرة إخبارية شهيرة لرأس المال الاستثماري تحذيراً بشأن المشاكل المالية التي يعاني منها البنك ما أثار مخاوف أكثر من مائتي مدير تنفيذي تقني سارعوا إلى سحب أموالهم، حيث أدى هذا السلوك إلى التدافع والتزاحم في البنك لسحب أموالهم دفعة واحدة مما أدى إلى انهياره.
وبحسب المؤرخ البريطاني، كان ذلك نتيجة لإلغاء دونالد ترامب والكونغرس الجمهوري لقانون “دود-فرانك” للإصلاح المالي في عام 2018، بناءً على طلب شخصي من رئيس بنك “سيليكون فالي” قبل ثلاث سنوات مما فتح الباب أمام هذا النوع من الانهيار، كما أنفق البنك أيضاً أكثر من نصف مليون دولار على ممارسة الضغط على مدى تلك السنوات الثلاث، حيث وظف أعضاء سابقين في مجلس وزراء زعيم الأغلبية كأعضاء في مجلس النواب (والمتحدث الآن) كيفن مكارثي، الذي أيد بحماس هذا التراجع. بالطبع، الجمهوريون ليسوا وحدهم من يقع عليهم اللوم، فقد أيد سبعة عشر ديموقراطياً التشريع، وكان النائب بارني فرانك هو الذي أصر كثيراً على أنه لن يجعل حدوث أزمة مالية في المستقبل أكثر احتمالية.
في هذه الأثناء، قام رجال الأعمال الفرديون في بنك “سيليكون فالي”، و”ول ستريت” بتحويل أنفسهم بين عشية وضحاها إلى أجنحة راغبة في الدولة، مطالبين الحكومة بمساعدة المستثمرين الأثرياء الذين يخاطرون بتكبد خسائر جسيمة، مع العلم أن الحكومة الفيدرالية تؤمن فقط الودائع التي تصل إلى 250000 دولار، ما يعني أن أكثر من 85٪ من ودائع بنك “سيلكون فالي” كانت غير مؤمنة.
عمليات الإنقاذ الشائنة والمكروهة لعام 2008 تختلف عن عمليات الانقاذ اليوم، لأن هذه المرة ليست البنوك التي يتم إنقاذها، وليس دافعي الضرائب هم الذين يدفعون الفاتورة، وإنما تتدخل الحكومة لضمان عدم خسارة المستثمرين الأثرياء والمديرين التنفيذيين سنتاً واحداً في هذه الكارثة، على الرغم من علمهم التام بأن ودائعهم كانت غير مؤمنة.
حتى صحيفة “وول ستريت جورنال” تسميها “إنقاذ بحكم الأمر الواقع”، أي هذا هو الظلم الواضح المرتبط بالثروة المتأصل في كل هذا. وبعد كل شيء، رأى المستثمرون مرة أخرى أن الحكومة الفيدرالية ستتدخل لإنقاذهم حتى لو كانت ودائعهم غير مؤمنة بغض النظر عن مدى عدم مسؤولية المؤسسة المالية التي كانوا يودعون أموالهم فيها، طالما كان هناك خوف من احتمال عدم الاستقرار المالي الأوسع نطاقاً في الأفق. وأخيرا يحذر المؤرخ البريطاني من خطر الكارثة الاقتصادية الأخرى التي يمكن أن تنجم عن تصميم بنك الاحتياطي الفيدرالي على محاربة التضخم عن طريق رفع أسعار الفائدة، اذ يعد بنك “سيليكون فالي” واحداً فقط من العديد من الكيانات التي يمكن أن تتحول إلى حالة من عدم الاستقرار مع استمرار البنك المركزي في خطته التي يقول الخبراء إنها ستؤدي إلى الركود.