الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

في ميلاده.. الخالد!

حسن حميد 

أعترفُ بأنني أعود بين حين وآخر، إلى تجربة شاعر الفذ نزار قباني لأتعلّم منها، فهي منجم للإبداع الوازن من جهة، وهي مدرسة للجمال الذي لا تنفد تعابيره من المعاني الثقال من جهة أخرى.
نحن الآن، في لحظة مرور ١٠٠ سنة على ميلاد نزار قباني الشاعر المدهش، فهو من مواليد ١٩٢٣، وحياته سيرورة لإبداع أصيل سجّل من خلاله عشقه للشام الجميلة، ومعرفته الضّافية بتاريخ بلادنا العزيزة، وشغفه بالأدب، وقدرته على جعل كلّ الكلام شعراً، وكلّ السرد سحراً خالداً، وكلّ الموضوعات قابلة للبقاء والعيش ما دام ارتباطها الحيّ بالإنسان، والمكان، والمعنى.
تجربة نزار قباني بصيغتيها، الشعر والنثر، هي تاريخ ١٠٠ سنة عاشتها سورية من جهة، وعاشها العرب من جهة أخرى بكلّ ما فيها من أفراح وغصص، لأن ما كتبه نزار قباني، حين بدأ كتابة الشعر في سنّ صغيرة، مرتبط بالإنسان، والمكان، والمعنى، أيّ يمثل حياتنا طوال هذه المدة الزمنية التي اخترمتها أحداث وحادثات مهولة، ولهذا واقف نزار قباني تاريخ بلادنا وكتبه بلغة الشعر كيما تحفظه الصدور، فما من حدث عام، أو حادثة اجتماعية راجّة إلا وكتبها نزار قباني كي تُحفظ في كتاب الزمن، وقد طوّع أغراض الشعر لها من أجل أن يتحدث عن المجتمع العربي عامة، والذات العربية خاصة، وهما ينتقلان من حال إلى حال، ولكم كان شاعراً رؤيوياً، يباعد بيديه ورؤاه ما راكمته الظروف والملمات كيما تبدو أيام العرب القادمة، وقد تخلّصت من عقابيل الظلمات التي أحاطت بها بسبب الاحتلال وما تركه من عجز جعل الحياة الاجتماعية تتدهور وتشحب أيضاً، ولعلّ قصيد نزار قباني الذي واقف الصراع العربي الصهيوني، يعبّر بجلاء عن روحه الوطنية، وخوفه السّامي، ومشاعره الصادقة، وهو يرى شهداء فلسطين يقتحمون كلّ كريهة بالجسارة التّامة، لقد واكب شعر نزار قباني تاريخ العرب الحديث، في عهد دولة الاستقلال العربية، وبالمحبة المطلقة، ففرح وهو يرى مصر العربية تنتصر على العدوان الثلاثي في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين المنصرم، وبكى وهو يرى حال الفلسطينيين، وهم يلجؤون إلى المخيّمات بعيداً عن قراهم ومدنهم بسبب سطوة قوة الإسرائيليين وتوحشهم، وانخلع قلبه وهو يقف أمام مشهديات المجازر الإسرائيلية التي اقتُرفت بحقّ الفلسطينيين، مثل مجزرة كفر قاسم، ودير ياسين، والطنطورة، والدوايمة، وجنّ قصيده أو كاد وهو يقف أمام ما حدث عام ١٩٦٧.
وعهدنا، أن الشاعر الحقّ، لا يعرف الهزيمة، لا في حياته، ولا في قصيده، وهذا ما كان عليه نزار قباني لأنه وعى الحدّين الأبديين: حدّ النور، وحدّ العتمة، لذلك جعل قصيده يدور حول الحرية ومعانيها النبيلة، وأفعال أهلها الجسورة، وأحلام طلّابها، فقصائد نزار قباني التي واكبت فعل الانتفاضة الفلسطينية في منتصف ثمانينيات القرن العشرين الفارط تمثل عنفوانه الرافض للخنوع، والهزيمة، مثلما تمثل التصاقه بالقيم الوطنية والقومية والإنسانية والتعبير عنها. لقد قالها نزار قباني بوضوح وصراحة، إن مواجهة المحتل هي الطريق الأقصر للحرية، وما من محتل في التاريخ خرج من أرض احتلها إلا بالمواجهة، وانتفاضة الفلسطينيين التي تجلّت، عبر شجاعة أطفالهم وشبانهم، هي مجد جديد للمواجهة، وهي كتابة تاريخية جديدة للأفعال الوطنية أيضاً، سطورها عشق للأرض والتاريخ والفداء.. من أجل الحرية المحلومة.
تجربة نزار قباني الشعرية والنثرية تجربتان، أولاهما في الإبداع الرّصين الجميل الذي كُتب كيما يبقى ويدوم، وثانيتهما عيش حياة أهله العرب، من أقصى البلاد العربية إلى أقصاها، وتدوينها بالحبر المضيء كيما تظلّ القصيدة هي المرآة التي يحدق الجميع فيها ليروا الثنائيات وهي في احتدامها وتناقضها، كيما تتولد الحياة العربية الجديدة المزيّنة بالعمل، والحرية، والمعاني الخالدة.
تجربة نزار قباني الأدبية والشعرية كتاب عمره ١٠٠ سنة، وفيه قولة الشعر الخالدة: موطني.. موطني، لأنها القولة العلوق بالحياة الكريمة، وفيه عافية الإبداع النوراني الذي يحلم به كلّ مبدع هميم!.

hasanhamid55@yahoo.com