القلوب الصائمة صامتة
غالية خوجة
القلوب النقية صامتة وأفعالها صائتة لأنها مؤثرة في أعماق الإنسان، ولا يقتصر صيامها على الطعام والشراب، بل على ما يدوم من مؤثراتها الفكرية والمعرفية والاجتماعية والنفسية في بناء الإنسان، وبذلك نكون قد دخلنا إلى الأعماق ومنها الضمير، ويجسّد تلك المحبة بالأخلاق وديمومتها عبْر الأجيال، فلنفتح أبواب ما لا نراه لكنه يتفتّح دائماً ويجذبنا إلى عوالمه التي لا توصف، تلك التي قال عنها شمس التبريزي: “عندما أخبرته أن قلبي من طين سخر مني لأن قلبه من حديد، قريباً..، ستمطر، سيزهر قلبي، ويصدأ قلبه”.
القلوب الصائمة صامتة لأنها ليست بحاجة إلى صوائت لتتنبّه إلى أوقات الضوء ومعانيه المعنوية من المحبة والعطاء وارتياد درب النور المؤدي إلى الخالق، وإلى قلوب الناس، وهذا ما يدركه العارفون من خلال نورهم الداخلي الذي يسعى بين أيديهم بأفعالهم المضيئة.
ولن يبلغ الإنسان النقاء الخالص إلاّ عندما يزهر قلبه بالحب الخالص لا طمعاً ولا جشعاً، لأن الحب يحتاج لنفس لا تعرف الكراهية، ولا تألف الحقد والكسل والحسد، وتتناغم مع الذي يبقى ولا يفنى، وتورق في النبضات، وتسطع من الآلام، وتجعل العتمة مشعّة، وتوقن بأن الشجرة مختبئة في البذرة، والبذرة حالة تسعى، والسعي من الدومان رغم الحرمان، واللحظة الأشدّ حظاً أن تلتقي روحك بروحك، فتشفّ حتى الغياب، هنا، لا أنانية لأنها احترقت، ولا إيذاء لأنه لن يولد، ولا شوائب عالقة بين النبضات لأنها لن تكون.
هنا، عالم من الرحيل الدائم عن اليباس والبوار والسواد، وتحليق دائم من الهطول الداخلي المنصهر مع العشبة والوردة والسنبلة والزقزقة والقمر الذي لا علاقة له بأي زلزال، وإبحار إلى حواف الكون، وإصغاء لحكايات الكواكب والنجوم، وعطاء لا ينتهي رغم الذوبان مع العناصر المرئية وغير المرئية.
ولن تبدأ تلك الرحلة إلاّ عندما تقرر أن تخوضها بيقين، لتتطهّر من شوائبك الروحية والقلبية والنفسية، فتتفّس كما الأفق الأخير للكلمة، وتنثر عطورك الزاهية، متسلّحاً بوجدانك الأنيق، عائماً فوق ذاتك، صابراً على جراح الظلمة، مقترباً من السعادة المنشودة بمدلولها الأشسع لأنه الأكثر واقعية.
هنا، الزمان صائم أيضاً، والمكان، والطيور، والأشجار، والشلالات، والبحار، والبراري، والضوء، والناسوت، فلا تيأس عندما ينكسر قلبك، لأنه انكسار وهميّ لكل ما يمكنك أن تتخلّى عنه لتتجلّى، وأنت مستغرق بك عنك معك في الملكوت.
هل شعرت بأن روحك حاضرة لا جسمك؟
إذن، جعلتَ من الصدق والأمانة مركباً لبصيرتك وحواسك وسرائرك، وجدّفتَ بعيداً عن النفس اللوامة إلى نفسك المطمئنة، ورحلتَ إلى ذاتك الرائية عائداً إلى أعماقك وأنت تراها تتفتّح مع تجربتك الكونية التي ليست بحاجة إلى مركبات فضائية لتقيم في فندق على القمر أو في برج على المريخ.
أعماقك تتفتّح مع أعماق الكون، والفضاء مراكب للمعاني، وجبال من اللغات، وسماوات مستمرة في الرحلة اللا نهائية، وموسيقاها البريّة تبحر وتحلق معك باحثاً عن نفسك في نفسك، لعلك، آنَ تجدها، تكتشف ما قاله جلال الدين الرومي: “ضرير الروح لا يرى وإن أبصر، وبصير القلب لو أغمض عينه يرى أكثر”.
دامت قلوبكم مبصرة، وأرواحكم مسافرة، ودام وطننا بكلّ الخير متفتّحاً مثل قلوب ساكنيه المبتعدة عن الجشع والذلّ والحقد والنبضات السوداء.