فشل الحروب الأمريكية غير التقليدية
عناية ناصر
أطلقت الولايات المتحدة خلال العقد الماضي العنان لنوع جديد من الحرب، يتضمن منهجية هجينة ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وعسكرية وثقافية وأيديولوجية، وتكون أدواتها العقوبات الاقتصادية، ودعم القوات العسكرية بالوكالة، والتشويهات الأيديولوجية، والتي تقوم باستخدامها ضد الدول التي ترفض إخضاع مصالحها لمصالح الولايات المتحدة.
ربما تكون الحرب غير التقليدية هي المرحلة الأخيرة للإمبريالية الأمريكية، حيث لا يمكن للحرب غير التقليدية أن تعكس عقوداً من التدهور الاقتصادي الأمريكي المتجذّر في الاهتمام غير الكافي بإنتاجية اقتصادها الوطني، ولذلك لا يمكنها بلوغ هدفها المتمثل في الحفاظ على الهيمنة الأمريكية في النظام العالمي الاستعماري الجديد، فهي تجد نفسها في أزمة هيكلية مستدامة تفاقم الحروب غير التقليدية.
بالإضافة إلى ذلك، إن الحرب غير التقليدية تؤدي إلى نتائج عكسية، فهي تزيد الوحدة بين الدول المعادية للإمبريالية، وتزيد من اهتمامها ببناء بدائل للهيمنة الأمريكية، كما أنها تعمّق وتزيد من العزم داخل الدول المستهدفة، حيث تواصل اليوم دول مستهدفة مثل الصين وروسيا وكوبا وفنزويلا ونيكاراغوا السير على طريقها ونهجها السيادي، وتطبيق تدابير إبداعية للتكيف مع الاستراتيجيات الإمبريالية الجديدة، وذلك عن طريق تعميق علاقاتها مع بعضها البعض، والعمل على دعم الدول الأخرى التي لديها اهتمام طويل الأمد بالبدائل الهيكلية للنظام العالمي الاستعماري الجديد.
في الحقبة المبكرة للانتقال العالمي من الاستعمار إلى الاستعمار الجديد، يمكن للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها القوى العالمية على الدول غير المطيعة والخاضعة لإملاءاتها أن تكون فعالة. خلال تلك الفترة الزمنية، كانت الدول غير الممتثلة هي تلك التي لم تتمسّك بمظهر الديمقراطية، كما كان متوقعاً في حقبة ما بعد الاستعمار للنظام العالمي الاستعماري الجديد، والذي تضمن مستوى معيناً من الخداع والذي يتكوّن فيه المجتمع الدولي من الدول التي يفترض أنها متساوية وذات سيادة، حيث يتمتّع جميع المواطنين بحقوق مدنية وسياسية، ولكن ليست اجتماعية اقتصادية.
جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، أيام الفصل العنصري، والتي تمّت معاقبتها بسبب عدم توافقها مع النظام العالمي للاستعمار الجديد بعد عام 1965، لم تستطع مقاومة تأثير العقوبات، حيث كانت ثقافتها السياسية تفتقر إلى المبادئ الأخلاقية التي يمكن الدفاع عنها والضرورية للمقاومة المستمرة.
ومع ذلك، فإن العقوبات الاقتصادية الحالية التي تفرضها الإمبريالية المنحلة هي مسألة أخرى، فالنظام العالمي الحالي هو في المراحل الأولى من الانتقال إلى عالم ما بعد الاستعمار الجديد متعدّد الأقطاب، ويكون فيه الاحترام الحقيقي لسيادة الدول متصوراً. في هذه الحالة، يتم معاقبة الدول من قبل القوى الغربية الاستعمارية الجديدة لمحاولتها ممارسة ما تتخيله للمستقبل. هذه الدول المتحدية لديها أساس أخلاقي قويّ لمواصلة المقاومة ضد أي هجمات ضدها، وعندما يتعرضون للهجوم، فإنهم يعيدون الالتزام بالمبادئ الأخلاقية الأساسية التي يقوم عليها تحديهم، مثل حق جميع الدول في السيادة ، من بين أمور أخرى.
إن الأداة الإمبريالية للعقوبات الاقتصادية هي مسألة معقدة، حيث تتضمن العقوبات الاقتصادية اليوم عدداً كبيراً من الإجراءات المالية والتجارية، وكثير منها موجّه ضد الأفراد أو المؤسسات الاقتصادية في البلدان المستهدفة وكذلك في بلدان ثالثة. من الصعب التنبؤ بتأثير العقوبات الاقتصادية، بسبب قدرة البلدان المستهدفة على التكيف، ولاسيما تلك ذات الاقتصادات الكبيرة والعلاقات التجارية والمالية الدولية الواسعة. على سبيل المثال، على الرغم من انخفاض الواردات الروسية خلال الأشهر القليلة الأولى بعد فرض العقوبات المتعلقة بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لكن مستوى الواردات تعافى بحلول نهاية عام 2022، حيث أعادت روسيا توجيه تجارتها إلى الصين، وعدد قليل من الاقتصادات أخرى. وبالمثل، ردّت الصين بإجراءات مضادة للعقوبات الأمريكية ضد الشركات الصينية.
من ناحية أخرى، على الرغم من أن البلدان المستهدفة تتكيّف بشكل ثابت، يمكن للعقوبات أن تلحق الضرر باقتصاديات الدول المستهدفة، وخاصة تلك ذات الاقتصادات الأصغر. ومع ذلك، فإن العقوبات الاقتصادية، حتى عندما يكون لها آثار ضارة، لا تسبّب تغييراً في السياسات الاقتصادية أو في السياسة الخارجية. كما أنها لا تثني الدول أو تحولها عن طريقها السيادي، ويمكن ملاحظة ذلك من حقيقة أن عمليات التكامل الإقليمي التي تسعى إلى نظام عالمي متعدّد الأقطاب قد تكثفت خلال العام الماضي.
خلال قمة البريكس، على سبيل المثال، التي عُقدت في 23 حزيران 2022 واستضافتها الصين، بحضور الرئيس فلاديمير بوتين، كان التزام الدول الأعضاء بزيادة التجارة والتعاون متبادل المنفعة جلياً. علاوة على ذلك، تمّ إعطاء اقتراح سابق لتوسيع “البريكس” أولوية جديدة، وفي هذا الخصوص تهتمّ العديد من الحكومات من آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية بالانضمام إلى مجموعة “البريكس”.
وفي سياق متصل أكدت رئيسة المنتدى الدولي لدول “البريكس”، بورنيما أناند، أنه حتى مع الأزمة في أوكرانيا، تتشكل تحالفات جديدة ويتطلع الناس إلى الشرق. وبالإضافة إلى ذلك، استضافت روسيا مؤتمر موسكو العاشر للأمن الدولي في آب 2022، والذي شاركت فيه أكثر من سبعين دولة، بما في ذلك الصين.
وفي نهاية المطاف يمكن القول إنه غالباً ما يؤدي فرض العقوبات الاقتصادية إلى الإضرار بالاقتصادات وإلحاق الضرر بالناس، لكنها لا تردع سعي الدول وراء السيادة.