تقرير حقوق الإنسان الأمريكي.. أداة للهيمنة
عناية ناصر
في وقت قُتل ما يقدّر بـ3897 شخصاً، بينهم أطفال، جراء 117 حادث إطلاق نار جماعي خلال ثلاثة أشهر فقط في عام 2023، وتوفي 5280 آخرون نتيجة عمليات انتحار في الفترة نفسها، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تقريرها “ممارسات حقوق الإنسان حول العالم في 2022″، تروّج فيه على أنها المنقذ لحقوق الإنسان، بينما تعمل على تشويه البلدان التي تعتبرها منافسة أو غير ودية.
ووفقاً للتقرير، وضعت إدارة بايدن حقوق الإنسان “في قلب السياسة الداخلية والخارجية”. وعلى الرغم من أن التقرير قام بتغطية مئات الصفحات حول كيفية قيام الحكومات الأخرى “بسجن أو تعذيب أو حتى قتل” المعارضين السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين، إلا أن التقرير التزم الصمت بشأن آلاف الأمريكيين الذين فقدوا حياتهم بسبب عمليات إطلاق النار الجماعية ووحشية الشرطة، وعمليات التمييز العنصري.
تنصّ ديباجة التقرير، الذي صدر في 20 آذار الماضي، على ما يلي: “منذ ما يقرب من خمسة عقود، أصدرت الولايات المتحدة تقارير الدول حول ممارسات حقوق الإنسان، والتي تحاول تقديم سجل وقائعي وغير متحيّز حول وضع حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم”.
يغطي التقرير ما يقرب من 198 دولة، ولكن القارئ يتساءل: لماذا لم تكن الولايات المتحدة واحدة من تلك الدول؟ إن السبب من وراء ذلك هو طموحها في أن تكون بمثابة “قاضي حقوق الإنسان” في العالم. لكن في المقابل، ربما فقدت الولايات المتحدة من خلال مراقبتها الجميع التركيز على وضع حقوق الإنسان الخاص بها، حيث تشير الولايات المتحدة دائماً في تقاريرها السنوية حول ممارسات حقوق الإنسان في العالم بأصابع الاتهام إلى دول أخرى بموقف متعجرف، بينما تتجاهل الانتهاكات المنهجية العديدة لحقوق الإنسان التي تحدث في الداخل الأمريكي، بما في ذلك العنف والجريمة والعنصرية والبطالة والتشرد وقضايا حقوق الإنسان المتعلقة بالهاجرين.
ومن خلال ترديدها شعارات طنانة حول الحقوق والحرية، تعلن واشنطن نفسها نصيراً للديمقراطية، وتؤكد تمسكها بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتتعهد ببذل كلّ ما في وسعها لجعل العالم أكثر أماناً، وأقوى ديمقراطياً، وحماية أكبر لحقوق الإنسان. ومع ذلك، على الرغم من الاحتجاجات واسعة النطاق ضد مقتل جورج فلويد، يبدو أن الولايات المتحدة لم تفعل شيئاً يذكر للتنديد بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تمّ استبعادها عمداً من التقرير السنوي لوزارة الخارجية.
محلياً، على الرغم من امتلاك الشرطة الأمريكية لتكنولوجيا أكثر تقدماً ومنشآت تدريب أفضل من نظيراتها في الدول النامية، إلا أنها تقتل أكثر من ألف شخص كل عام دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، ففي عام 2022 وحده، شهدت الولايات المتحدة التي نصبت نفسها ديمقراطية رقماً قياسياً بلغ 647 عملية إطلاق نار جماعي خلفت وراءها 44329 قتيلاً، وفقاً لأرشيف العنف المسلح.
تظهر إحصاءات جمعها موقع الأبحاث “مابينغ بوليس فيولنس” تورّط رجال الشرطة بقتل 1239 شخصاً في عام 2022، بمتوسط ثلاث وفيات يومياً، وربما تفسّر قضايا حقوق الإنسان الخطيرة هذه سبب اختيار الولايات المتحدة عدم تقييم نفسها.
كانت تقارير وزارة الخارجية الأمريكية السنوية حول ممارسات حقوق الإنسان تقليداً لما يقرب من 50 عاماً، لكن الأمر المثير للاهتمام أن الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة خصومها الاستراتيجيين هم دائماً أولئك المتهمون بالقمع والإكراه والاعتقال التعسفي والمعاملة غير الإنسانية، ولذلك فأي دولة ترفض الانصياع لإملاءات واشنطن يحكمها نظام استبدادي يسيء معاملة شعبه، ويعرض الديمقراطية للخطر، وتخفي انتهاكها لسيادة تلك الدول بغطاء أخلاقي، ولكن على الرغم من المظاهرات المحلية واسعة النطاق، فقد تمّ تصوير حلفاء واشنطن دائماً على أنهم ملتزمون بدعم حقوق الإنسان.
يُظهر المسار التاريخي لأمريكا أنها لطالما نظرت إلى حقوق الإنسان كأداة للهيمنة التي تستخدمها بشكل انتقائي كذريعة لوصف الدول بأنها “منتهكة لحقوق الإنسان”، حيث قامت تحت ذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان بغزو العراق وسورية وليبيا وأفغانستان. ونتيجة لذلك، عانت كلّ تلك الدول التي مزقتها الحرب من قتل مدنيين أبرياء وتدمير كارثي للبنية التحتية. وفي هذا الإطار يجب عدم التغاضي عن حقيقة أن معهد “واتسون للشؤون الدولية والعامة” في جامعة براون توصل إلى استنتاج أن الحرب الذي شنّتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان أدت إلى مقتل ما يصل إلى 250 ألف مدني، وهنا تظهر سخرية احترام الولايات المتحدة حقوق الإنسان في البلدان الأخرى.
يؤكد قرار مجلس حقوق الإنسان رقم 47/9 أن حقوق الإنسان يجب أن يكون بناءً ومستنداً إلى مبادئ العالمية وعدم القابلية للتجزئة والموضوعية واللاانتقائية وعدم التسييس والاحترام المتبادل والمعاملة المتساوية، لكن الولايات المتحدة لا تتمسّك بالمعايير الدولية المشتركة، ولا تضمن حقوق الإنسان من وجهة نظر عادلة وحيادية عند تعزيز دبلوماسية حقوق الإنسان وإدارة شؤون حقوق الإنسان، فهي تمارس دائماً معايير مزدوجة أو حتى متعدّدة.
وفي هذا السياق، تعمل الولايات المتحدة على تضخيم أوضاع حقوق الإنسان في الدول النامية والدول الأخرى “غير الصديقة” في تقاريرها القطرية السنوية، بينما تقلل من شأن المشكلات المماثلة لدى حلفائها أو تقوم بتجاهلها، الأمر الذي يطرح التساؤل حول سبب تصرف الولايات المتحدة دائماً كمراقب صامت بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في “إسرائيل” وغيرها من الدول التابعة لها، وهل يدعم استخدام الأسلحة الأمريكية في غزو اليمن، الذي أسفر عن مقتل نحو 2.5 مليون شخص، بما في ذلك ما يقرب من 10000 طفل انتهاك حقوق الإنسان؟.
يجادل النقاد بأن التقرير السنوي لا علاقة له بحقوق الإنسان، ولكنه أداة لإيذاء الخصوم وإكراه البلدان الأخرى، حيث يمكن استخدام “قضية حقوق الإنسان” لانتقاد أو تهديد أو معاقبة دولة ما إذا تبنّت سياسة تتعارض مع مصالح حكومة الولايات المتحدة في مرحلة معينة، ويكشف أن السياسات الإستراتيجية للولايات المتحدة لها وزن أكبر من مؤشرات حقوق الإنسان الفعلية في عملية إعداد هذا التقرير القطري.