رأيصحيفة البعث

دبلوماسية سورية شاملة

أحمد حسن

في الجوهر أيقظت دمشق بالأمس – في حراكها الدبلوماسي الشامل بين موسكو والقاهرة – آمالاً جمّة بمرحلة جديدة للمنطقة بأسرها، وإذا كان وفدها الدبلوماسي قد حطّ في موسكو لاستكشاف حقيقة نيّات ووعود أنقرة بالعودة للتعقل السياسي وأوله وأسّه حسن الجوار و”إنهاء الوجود العسكري التركي على الأراضي السورية ومكافحة الإرهاب وعدم التدخل في الشؤون الداخلية السورية”، الأمر الذي ينتج بصورة آلية وطبيعية حدوداً آمنة للجميع، فإن وفدها الدبلوماسي الذي حطّ في القاهرة كان يعيد ترسيخ حقيقة تاريخية كبرى مفادها أن أمن بلاد الشام، وسورية أمها وقلبها في الآن ذاته، يبدأ غرباً من أقاصي وادي النيل، بينما أمن مصر يبدأ شمالاً من الحدود السورية التركية – الجغرافية الطبيعية، وليس السياسية الحالية – وتلك حقيقة استراتيجية تتجاوزهما معاً لتشكّل ضماناً شاملاً للأمن القومي العربي كلّه عرفها ووعاها وعمل بمقتضياتها القادة الكبار الذين توالوا على حكم البلدين في التاريخ القديم والحديث، كما عرفها ووعاها وعمل ضدّها كل طامع خارجي عبر التاريخ، فكانت أولى خطواته للدخول إلى المنطقة والاستفراد بقرارها ومستقبلها هي الفصل بين الطرفين جغرافياً وسياسياً، وتلك هي تحديداً الوظيفة الأهم التي أنشئ لأجلها الكيان الصهيوني في القرن الماضي كما تكشف وثائق الخارجية البريطانية ذاتها.

وفي هذا السياق، يمكن القول: كانت “حطين” قديماً و”تشرين” حديثاً تجسيداً لوعي المنطقة بنفسها وبالتالي للاقتراب والاقتران، وكان ما نشهده منذ أكثر من عقد نتيجة لوعي الآخرين بخطورة ذلك عليهم – وهذا ما كشفته وثائقهم ذاتها – وبالتالي للابتعاد والافتراق.

بهذا المعنى نفهم كيف كانت العلاقات التركية السورية الممتازة مطلع القرن استجابة لنداء طبيعي لمنطقة تطلب، وتستحق، الاستقرار والحياة، وكيف كان “وأدها” أول المشكلة، كما نفهم كيف كانت صرخة إذاعة دمشق بالقول الشهير: “هنا القاهرة من دمشق” بعد عدوان 1956 أبعد من مجرّد تعاطف شعبي أو سياسي طبيعي لتصل إلى حدود وعي تام لهذه الحقيقة الاستراتيجية، ونفهم أيضاً كيف أن الوحدة السورية المصرية بعد عامين على تلك الصرخة كانت أول عمل مقاوم فعليّ وجدّي في التاريخ العربي الحديث للتدخل الخارجي بصيغته التقسيمية أي “سايكس-بيكو”، وكان وأدها، أي الوحدة، أول “الردّة”، ثم كان الحفاظ على الانفصال وترسيخه في الوعي قبل الجغرافيا غاية الخارج ومطلبه الرئيس.

وهنا تحديداً نفهم لحظة “مرسي” ودرسه -وهو تلميذ أردوغان بوجهه وطموحه الإخواني- وهو يعلن الحرب على سورية من قلب القاهرة، كأعلى ما وصلت إليه هذه “الردّة” وأقساه، لكنه كان أغباه أيضاً لأنه بذلك كشف عن قرار جديّ ليس بالحرب على سورية فقط بل بعزل مصر، بالدماء هذه المرة، عن حدّها الأمني القومي في شمال سورية بصورة نهائية وكاملة، وكان الردّ من قوى مصر الحقيقية والواعية كبيراً ومعروفاً.

بهذا المعنى تبدو زيارة الوفد الدبلوماسي السوري لموسكو استكشافاً لصدق أنقرة في إمكانية عودتها عن أوهامها، وتبدو زيارة وزير الخارجية السورية فيصل المقداد إلى القاهرة حمّالة لرسائل عدّة، بعضها أعلنه المتحدث باسم الخارجية المصرية حين قال إن الزيارة تحصل “على ضوء ما يربط بين البلدين من صلات أخوة وروابط تاريخية، وما تقتضيه المصلحة العربية المشتركة من تضامن وتكاتف الأشقاء في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية المتزايدة..”، وبعضها قالته الزيارة بحدّ ذاتها مفصحة عن كونها خطوة جديّة، ومثمرة، لاستكمال تعضيد وتقوية الموقف العربي ضد المشاريع الخارجية في عالم متغيّر، وهو موقف لا يقوى وينتج -وذلك درس التاريخ الذي لا يكذب- إلا إذا طار بجناحين أحدهما في القاهرة والآخر في دمشق، وارتكز على علاقات طالما أرادتها دمشق أخوية مع الجوار.

حينها، وحينها فقط، يمكن لجميع أبناء المنطقة مجابهة التحدّيات المختلفة، داخلياً وخارجياً، بصورة أفضل وأجدى في الآن ذاته، وذلك هدف الدبلوماسية السورية الشاملة وغايتها.