التجسس.. اللون الحقيقي لـقمة الديمقراطية
عناية ناصر
أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، بصفته المضيف لما يُسمّى بـ”قمة الديمقراطية” التي اختتمت مؤخراً، أنه سيتمّ تشكيل تحالف لمحاربة الحكومات “التي تسيء استخدام تقنيات المراقبة للقمع”. كما استخدم أمراً تنفيذياً يحظر استخدام حكومة الولايات المتحدة لبرامج التجسّس التجارية كمثال بارز على قيادة الولايات المتحدة في تعزيز “الديمقراطية”، وتصوير الولايات المتحدة على أنها “المدافع” عن الفضاء الإلكتروني العالمي. إلا أن ما نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” مؤخراً حول الاستخدام السري للحكومة الأمريكية لبرامج التجسّس من شركة “إن إس أو” الإسرائيلية، يكشف مرة أخرى وبشكل واضح الطبيعة الحقيقية للولايات المتحدة كمدافع مزيف عن الفضاء السيبراني العالمي. إن شركة “إن إس أو” المذكورة في صحيفة “نيويورك تايمز”، هي الشركة نفسها التي أنشأت برنامج التجسّس “بيغاسوس”، والمعروف على أنه “ربما أقوى برنامج تجسس تمّ إنشاؤه على الإطلاق”.
ومن الجدير بالذكر أن فضيحة “بيغاسوس” تسبّبت من قبل بضجة عالمية، حيث يتمتع برنامج التجسس بقدرة هائلة على جمع معلومات حول المواقع والصور وكلمات المرور دون إذن المستخدمين. وكانت الشركة قد تجسّست على ما لا يقلّ عن 50000 رقم هاتف من 50 دولة، بما في ذلك أرقام مئات السياسيين والمسؤولين الحكوميين، وقد أدى ذلك إلى سلسلة من ردود الفعل وحتى إحداث عاصفة سياسية، حيث وصفت هذه الحادثة بأنها “واحدة من أكبر فضائح التجسس في عصرنا” من قبل بعض وسائل الإعلام.
وفي سياق متصل، كشف تحقيق أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” في أوائل العام الماضي، أن مكتب التحقيقات الفيدرالي اشترى برنامج التجسس “بيغاسوس”، وعلى أثر ذلك اعترف مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر راي بأن مكتب التحقيقات الفيدرالي قد اشترى بالفعل برنامج التجسس، ولكن فقط من أجل “البحث والتطوير”. في التحقيق الأخير الذي أجرته صحيفة “نيويورك تايمز”، استخدم البيت الأبيض، بعد وضع شركة “إن إس أو” الإسرائيلية على القائمة السوداء لوزارة التجارة في عام 2021، شركة واجهة لتوقيع عقد لشراء “لاندمارك”، وهو برنامج آخر من برامج شركة “إن إس أو”، وكتب التقرير: “بموجب هذا العقد، كانت هناك آلاف الاستفسارات في بلد واحد على الأقل، المكسيك”.
في الواقع، إن سلوكيات تجسس معينة من الولايات المتحدة باعتبارها “إمبراطورية مراقبة جماعية” حقيقية لم تعد تعتبر “أخباراً”، ففي وقت مبكر من عام 2013، كشفت فضيحة برنامج التجسّس الرقمي “بريزم” أن رئيس المكسيك آنذاك كان تحت مراقبة الولايات المتحدة.
بعد الكشف عن فضيحة “بيغاسوس” من قبل العديد من وسائل الإعلام وإدانتها على نطاق واسع في تموز 2021، أدرجت الحكومة الأمريكية شركة “إن إس أو” الإسرائيلية على القائمة السوداء في تشرين الثاني من ذلك العام، بدعوى أنها انخرطت في أنشطة تتعارض مع الأمن القومي أو مصالح السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ومع ذلك، وفقاً لتقرير صحيفة “نيويورك تايمز”، قامت الحكومة الأمريكية بنشر أداة القرصنة بشكل سري محلياً لسنوات عديدة، ومنحتها إلى دول أخرى قبل الحظر. وحتى بعد صدور الحظر، استمرت الحكومة الأمريكية في توقيع العقود مع الشركة رغم الفضيحة، ولا يزال العقد ساري المفعول حتى يومنا هذا.
ينعكس الجانب المنافق والشرير لواشنطن أيضاً في حقيقة أنه بعد استهداف شركة “إن إس أو” من قبل الولايات المتحدة ووقوعها في الصعوبات، كان الشركاء الآخرون “خائفين”، ثم ظهرت شركة المقاولات الدفاعية الأمريكية العملاقة “هاريس” بالمصادفة، وبدأت مفاوضات الاستحواذ. وفقاً للتقارير، كانت شركة “هاريس” على اتصال وثيق بوكالات الاستخبارات الأمريكية ووزارة التجارة الأمريكية وأحرزت بعض التقدم، وفي هذه المرحلة، أصبح السبب الحقيقي وراء فرض وزارة التجارة الأمريكية للعقوبات على شركة “إن إس أو” واضحاً.
ذكرت العديد من وسائل الإعلام، بما في ذلك صحيفة “نيويورك تايمز”، أن شركة “إن إس أو” تعتبر “تحالف العيون الخمس” أكبر سوق محتمل لها، ومن المحتمل جداً أنها تعاونت بالفعل معه نظراً لأن الصين أصبحت الهدف الرئيسي لـ”تحالف العيون الخمس” في السنوات الأخيرة، فهناك سبب للشك في أنها ستستخدم “بيغاسوس” للتجسس على الصين.
وبالنظر إلى الأسلوب المتسق للولايات المتحدة، يمكن التكهن بأسوأ سيناريو فيما يتعلق بالنتيجة النهائية. بالطبع لا يمنع كلّ هذا الولايات المتحدة من تقديم أداء حماسي في “قمة الديمقراطية”، ولا يمنع العديد من الأمريكيين باستمرار من تضخيم ما يُسمّى بقضية القراصنة الصينيين، وتحويل الانتباه عن طريق التشهير بالدول الأخرى. ومع ذلك، كانت الشعارات الأخلاقية التي رفعتها واشنطن مليئة بالثغرات بدءاً من فضيحة برنامج التجسّس الرقمي “بريزم” وغيرها، كما أنها تظهر الصورة التي تركتها واشنطن في عيون العالم هي بالفعل صورة “الواعظ الكاذب” الذي يتشدق بشعارات لا تمتّ له بصلة!.