الأدب الوجيز ومحاكاة العصر
سلوى عباس
الإيجاز فن يفترض الكثير من الحذاقة والرهافة والدُربة، والأدب الوجيز حركة أدبية نقدية تجاوزية أسسها في لبنان الشّاعر الراحل أمين الذيب مع أعضاء ملتقى الأدب الوجيز في بيروت عام 2016 انطلاقاً من إيمانهم بضرورة مواكبة التقدم الإنساني، ونقل النص الأدبي إلى شكل جديد، ويعني ذلك الاختزال اللغوي من حيث الشكل، والتّكثيف من حيث المضمون، وقد نجحوا في خلق روحية العمل الجماعي وتضافر الجهود بين كل المهتمين بالأدب الوجيز من منظّرين ومبدعين ومتابعين من العرب، واتسعت دائرة هذه الحركة لتشمل دول المشرق العربي كلها، وامتدت إلى دول المغرب العربي أيضاً، وعُدت حركة تجاوزية لأنها ترتكز على منطلقات فكرية جديدة لتؤسس نوعاً أدبياً جديداً يقوم على مقومات فنية تجعل منه جنساً أدبياً على غرار الإيجاز والتكثيف والدهشة والمفارقة، الرمز، التوظيف الأسطوري البعد الفلسفي، الاستشراف، الإيقاع الداخلي.
يجد هذا الأدب جذوره في الأساطير والملاحم الأولى، وبالتالي فهو امتداد لقول أدبي قديم تطور عبر العصور دون أن يتخذ صفة الاستقلالية أو أن يكرس نفسه نوعاً أدبياً جديداً، حيث يسعى هذا الأدب بأجناسه المختلفة، كما يجمع المنظرون له، إلى التعبير عن الحالة الإنسانية بموضوعاتها المختلفة بعمق وبأقل قدر من الكلمات والفقرات كي يحقق تواصلاً أعمق مع المتلقي، وقد ازدهر هذا الأدب وانتشر في عصر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وباتت حجته الراية التي يرفعها كل من يريد أن يطرق باب الأدب، فلاحظنا الاستسهال في الكتابة، وارتياد كثير من مدعي الأدب حقل الكتابة الأدبية، دون أن يمتلك القدرة على الكتابة، وعزز ذلك انتشار النقد المجامل الذي أصبح رافعة زور لكثير من المبدعين، ولأنه زمن السرعة وزمن البحث عن الإنسان ووجوده فرض الأدب الوجيز نفسه حلاً كي لا تموت القصيدة والأنواع الأدبية ذات الحجوم الكبيرة وغير القادرة على التّفاعل مع متطلبات المرحلة.
بالمقابل لم يكن هذا الأدب مجاراة للعصر بقدر ما شكل حالة معرفية مكثفة وقوة فكرية وفلسفية تطبع المجتمع وآدابه، والتكثيف فيه دليل بلوغ معرفي يتقن التواصل بين الشاعر والذات والحياة بأقل الكلمات وأوسع المعاني فكان “أدب المعرفة بامتياز”، ومن هنا يقر النقاد بصعوبة الكتابة في هذا الجنس لأنه أدب يختزن في نصوصه عصارة التجربة الثقافية والفلسفية واللغوية الجمالية للكاتب شعراً أو سرداً.
ويرى بعض النقاد أن “الأدب الوجيز” يشكل اليوم إطاراً للكثير من الأنواع الأدبية تشمل أشكالاً عدة من القصة والقصيدة، وبالتالي لا يمكن تجاهله في ظل ابتعاد الجمهور عن القراءة والسرديات، مقابل الإقبال الكبير على مواقع التواصل، ويدافع المؤيدون عن هذا الشكل الأدبي بأن معظم الإصدارات الحديثة وفي الشعر تحديداً باتت تنضوي تحت هذا التصنيف الذي باتت له مؤسساته، ومساهمته في السياق الإبداعي، يضاف إلى ذلك، أنه يترك المجال واسعاً للقارئ لأن يكون شريكاً في كتابة النص الذي يطرح بدوره الكثير من الأسئلة، ليجيب عنها برؤى إبداعية مختلفة.
ومن وجهة نظر الشاعر أدونيس التي قدمها في أحد ملتقيات الأدب الوجيز أن الدعوة إلى هذا الأدب تعني الدعوة إلى إبداع ينهض على رؤية خلاقة، بصراً وبصيرة، عمقاً وعلواً، إضافة إلى الجهات الأربع في جغرافية المعرفة، بحيث تنشأ أشكال جديدة من طرق التعبير، وتنشأ علاقات جديدة بين الكلمة والكلمة، وبين الكلمة والشيء، وبين الإنسان والعالم.
وحسب معطيات العصر المتسارعة يفرض هذا الأدب نفسه علينا انطلاقاً من حاجتنا إلى نصوص تكرس ذهنيات مختلفة فلا تعيد إنتاج ما قيل بقوالب لفظية كثيفة لا تتوفر فيها شروط كتابة الومضة أو القصة القصيرة جداً، وهنا تكمن مسؤولية القارئ في تذوق كل عمل فني بأن يعي أبعاده ويقف على مراحل تطوره، وما نتعاطى معه تحت مسمى “الأدب الوجيز” يسعى بكل ما يمتلكه من خبرات بشرية إلى تجاوز نفسه باستمرار في سياق عملية فكرية بنيوية جدية ورصينة تثبت حضوره الإبداعي المتجدد.