البعث.. “المهم أن نلتقي بالهدف النهائي”
بسام هاشم
يبدو أن “المعارضة” المزعومة سورية تسلك طريقها الى تقاعد مريح ومبكر، وهي تتفرغ اليوم لكتابة “التاريخ المضاد” لـ “الثورة المغدورة”، أو “المنسية”، كما يحلو لأدبياتها المريضة والمهزومة أن تردد.. و”التاريخ المضاد” هنا لا يعني مثلاً الاعتراف بالأخطاء أو الإعلان عن الحقائق أو فضح حقيقة الارتباطات بالخارج، بل يعني وحسب الإمعان في تدمير الوطنية السورية، التي تراكمت على امتداد القرن الماضي، من خلال إطلاق سرديات مريضة، وحاقدة، ومشبعة بالروح الانتقامية، حول تاريخ سورية الحديث والمعاصر، وحول حزب البعث العربي الاشتراكي، وتجربته الطويلة نسبياً في القيادة والحكم؛ وهي سرديات تولد وتتعملق في ظل التواطؤ، المعلن والخفي، مع “الإخوان” و”الدواعش” و”الوهابية”، أو حتى الانتماء لهم، ومن خلال سوق مبررات عشوائية، سياسية ووطنية وأخلاقية، لسلسلة المذابح والفظائع الدموية التي ارتكبت خلال الحرب، وحتى ما قبل الحرب، تحت شعارات مواجهة “الاضطهاد” أو المطالبة بـ “الحرية”.
ويقتحم مشهد تدوين هذه السرديات، للأسف، مثقفون مزعومون “علمانيين” أو “يساريين” سابقين عملوا ويعملون في خدمة الرجعية، السورية والعربية، ونفذوا وينفذون أجندة “الناتو” بمرتسماتها الطائفية والمناطقية.. لقد أفلست همروجة “الثورة” للأبد، وأُجهض “الحراك الثوري”، أو ترك للجولاني وللقوى الانفصالية العميلة، أو لبعض المرتزقة الذين أدمنوا على الدولارات القطرية، والوقت الآن هو للاستثمار في الكتابة التاريخية “المضادة”، وخاصة تاريخ حزب البعث، كمهنة مريحة مفتوحة على الشيكات المصرفية، وتجعل من استمرار الإقامة في لندن وباريس وبرلين، وعواصم قليلة أخرى، مبرراً قابلاً للصرف باستمرار.
ورغم أن أي حزب أو حركة سياسية لا يحبذ التعرض للنقد، بل ولا يتوانى عن إخماد أصواته “النشاز” عند الضرورة، إلا أن من النزاهة الاعتراف بأن البعث هو من بادر للاعتراف بأخطائه على اختلاف مراحل وجوده، وهو أول من طرح الحلول للخروج من أي حالة استعصاء أو أزمة خلال وجوده في السلطة.
لقد وعى البعث منذ مرحلة مبكرة أن طبيعة الحياة الداخلية لأي حزب أن تتوزع على تيارات وأجنحة، وأن الاجتهادات مطلوبة ومشروعة، بل هي دينامية مثرية عندما لا تستهف الوحدة الفكرية والتنظيمية.
والبعثيون هم أول من كتب عن الحزب، وعن عثرات تجربته وأدبياته، وعن أهمية حضوره، وبذهنية قائمة على المراجعة القاسية، وانطلاقاُ من حقيقة أن الحزب جماهير أولاً.. وفعلياً، قاد البعث الدولة والمجتمع، ولكنه لم يتفرد بالسلطة.. واجه البعث بمفرده صعود الفاشية الإخوانية والوهابية ومرتزقة الناتو إلى مواقع القرار في المنطقة العربية طوال عقد كامل، وهو الوحيد بين الأحزاب العربية الذي لم يدخل في العصر الأمريكي والإسرائيلي، رغم أن أحزاباً كثيرة، ومنها موسومة بالعداء للامبريالية، فعلت. وقد دفع ثمناً باهظاً من جراء ذلك.
وإذا كانت تجربة البعث تنطوي فعلاً على شيء من الطوباوية، فلأن البعث رسالة قبل أن يكون حركة سياسية هدفها الوصول إلى السلطة. وطوباوية البعث لا تحتفي بالوهم ولا بالخضوع ولا بالاستسلام، بل تمنح الطاقة الضرورية للانبعاث والتجدد، وتضع الواقع الصعب وغير المقبول في أفق شروط تغييره.
وهنا، فإن محاولة البعض تلفيق المقارنات بين البعث كفكرة وبين البعث كتجربة سياسية أعجز من أن تصمد أمام حقيقة أن كل الأفكار الكبرى، وكل الإيديولوجيات، وحتى الأديان، عاشت هذا التفارق، في الكثير من المراحل، لا بل جرى توظيف بعضها في سياقات معاكسة وهدامة وتدميرية، وذلك لاعتبارات تخص شروطها ومساراتها التاريخية.
والمشكلة أن الثقافة العربية المعاصرة، المهيمنة، وغير الرسمية، لم تروّج، منذ نهاية الستينيات، إلا لحسّ الصعلكة، ولم تغذّ لدى الأجيال الجديدة إلا النزعات الفردية والهامشية، ولم تشحن إلا روح التمرد وسلوكيات الذئب المتوحد، بمعنى أنها نكصت في غالبيتها عن المساهمة في بناء الدولة الحديثة، أو حتى بناء مجتمعاتها الوطنية، وروجت – عن قصد أو غيره – للانهزامية والالتحاق بـ “الخارج” (الغربي أو الوهابي لا فرق) كفلسفة خلاص “شعبية”، لينتهي الأمر في لاوعينا الجمعي، عملياً، إلى نوع من تقديس الرفض والعدمية.
والمشكلة أيضاً أن غالبية صفحات التاريخ السوري الحديث إنما وضعها أدباء وشعراء وروائيون على شكل سير ذاتية، أو مراجعات غلبت عليها الأساليب الأدبية، وعكست وجهات نظر شخصية، وقسم كبير منها أريد منه أن يتخذ شكل “فعل الندامة”، أو أن يكون بطاقة عبور إلى الضفة الأخرى “الاستعمارية”، أو الحصول على الإقامة ” .. “، فكان تاريخنا السوري، وتاريخ حزب البعث، أحد أكبر ضحايا هذا النوع من “الإبداع” و”الحرية” المزيفة.
لقد بات من الضروري وضع حد للدعاية المضللة حول صعود البعث والقومية العربية لكي نفهم التاريخ العربي المعاصر على الأقل.. هم يهاجمون تاريخنا النضالي، متجاهلين حقيقة أن الحزب موجود بصفته عضواً فاعلاً في حركة النضال الوطني والعربي والعالمي، وضمن نسق كان قائماً وفاعلاً في لحظة تاريخية تتجدد اليوم أمام أعيننا، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على الانهيار السوفييتي.
لم يكن البعث، يوماً ما، حزباً لكوادره فقط، بل كان حزباً لكل الوطنيين السوريين، ولكل من آمن بالأمة العربية الواحدة، وهم الغالبية الساحقة من السوريين عبر تاريخهم الحديث، ولكنهم كل العرب الذين يضربون في عمق الزمن، وفي التاريخ البعيد للحضارة الإنسانية.
واليوم، وفي ظل مجتمع ما بعد الحرب، وفي سياق المهمة التاريخية الجديدة، يتجه البعث إلى أن يكون البوتقة التي تستوعب مختلف التوجهات والتيارات انطلاقاً من الإجماع على هدف بناء البيت المشترك. وكما قال الرفيق الأمين العام للحزب، السيد الرئيس بشار الأسد خلال استقباله وفد الأحزاب العربية: “ليس المطلوب أن نكون أصحاب فكر واحد، أو توجه واحد، لكن المهم أن نلتقي بالهدف النهائي”.