ناس ومطارح تامار شاهينيان: سيدة الحديقة
تمّام بركات
على بعد أمنية عن أرمينيا، بين “باب توما” و”الصالحية” يقع مكانها الأكثر رحابة، عالمها الخاص، بضع درجات صعوداً، ثم الولوج من باب الحياة اليومية، بتفاصيلها العائلية الأشد خصوصية، إلى جنتها المشتهاة، حيث قررت السيدة تامار شاهينيان،-55 عاماً- أن ترفع أعمدة شغفها، محولة ركناً خاصاً من بيتها، إلى مملكة من نوافذ ملونة، مطرزة بصباحات مشرقة، عملت بجهد موقر، تدفعها غريزة المرأة بكافة تحولاتها، لجعلها حقيقة قائمة، لا مجرد حلم يقظة، بعد أن بقيت لسنين طويلة، ترسمها بخيالها، وتضع لكل شبر فيها، تصوراً شديد الخصوصية، يدل على أن شجرة حلمها، اليانعة الظلال والأخيلة، قد أورقت، بعد أن جهدت طوال ما مضى من العمر، لتورق أشجار بنات قلبها أولاً، معلقة على أغصانهن، أقماراً وشموس، تلمع وتضيء أبداً.
إلا أن القصة لم تجرِ أحداثها كما نشاهد في الدراما، وربما تكون تقنية القص “السرد خلفاً” هي الأنسب لتلك القصة، تامار لم تبدأ العمل على مشروعها الفني، الحرفي، ونظرها ممدود إلى مكانها المشتهى، عقب تخرجها من الجامعة مثلاً، أو في بداية طريقها العملي، لقد أجلت مشروعها الشخصي، لأربعة مشاريع لا تقوم دونها، ذاك أن للقلب أحكامه الحاسمة، تزوجت وأنجبت ثلاثة فتيات، رائعات كنقطة في مصحف، صرن شابات وأمهات، بعد أن انهين دراستهن الجامعية، وتعمل كل واحدة منهن على مشروعها الخاص اليوم، دون أن يغيب خيال تامار عنهن سوية أو متفرقات، وبعد أن اطمأن قلب الأم إلى أن مشاريع روحها، متينة الإشادة والبنيان، وضعها القدر كما تقول مرة أخرى، أمام سؤاله الوجودي الملح، “ثم ماذا بعد” فلم تتردد في الإجابة.
في عام 1992، تعرفت تامار على التطريز الإلكتروني، والتطريز من الفنون السورية العريقة، التي أحبها الناس، ومارسوها، حتى أنها صارت حرفة، لكنها ككل الحرف اليدوية، التهمت الآلة روحها الفريدة، وقدمت نسخاً لا حصر لها منها، وهنا لمعت الفكرة في رأس تامار، لما لا يكون التطريز إلكترونيا أيضاً، ولكن مع خصوصية التصميم، ورفع سويته الفنية، وذلك من خلال تقديم مفردات من طبيعة كل من سورية وأرمينيا، ثم جعلها لوحات مطرزة الكترونياً، ثم الذهاب نحو زيادة الجرعة الفنية، من خلال جمعها بين الشعر والتشكيل، في لوحة واحدة، وبروح متجانسة حسب فهمها لجوهر العملية الفنية، تقول تامار عند سؤالها عن خشية سيطرة التقنية البحتة على عملها: “قناعتي بأنه مهما أغرقتنا التكنولوجيا في حديثها، يبقى الإنسان ودوره في توظيف أدوات العصر لخدمته ولكل ما هو جميل، خيار شخصي لا يُسلب منه إلا باستسلامه وسوء استخدامه لهذه التقنيات”.
وفي البيت الفسيح بحديقته الوارفة، التي تجعل من يدخلها يظن أنه خرج من بين الكتل الإسمنتية، ودخل في بستان، حولت تامار واحدة من مرافقه المحببة إلى قلبها، لمحترف فني ومشغل تصميم خاص، تطل واجهته الزجاجية على حديقة البيت، التي تحتفي بالربيع، إلا شجرة ليمون واحدة، يبدو أن الربيع لم يصحو كاملاً بعد في نسغها، ولشجرة الليمون هذه حكاية، جلبتها تامار في بداية الحرب عام 2011، وزرعتها في حديقتها، محتفظة برمزية هذا الحدث، الذي ربطت فيه السماء بالأرض، وما يعنيه هذا في الأساطير، من تجذر بالمكان والزمان، إلا أن شجرتها لم يناسب رئاتها الخضراء، الهواء المشبع بالبارود والخوف، فخلعت عنها حلة الحياة، والبستاني أكد لسيدة الحديقة، أن الشجرة ماتت، إلا أن حلفاً أنثوياً مبهماً وغامضاً، دفع تامار لعدم التصديق، بل وللإيمان بأنها ستورق من جديد، وفي هذا الربيع، تشير تامار إلى بضعة أغصان خضراء فتية جداً، تشق اللحاء المتجعد، وتخرج للضوء.
ترى السيدة تامار شاهنيان أن البيت وطن، والمكان المحبب إلى القلب فيه، وطن بدوره، والتفكير بكيف تجمع أوطانها الصغيرة والكبيرة، في مكان واحد، تحت ضغط هائل من شغف قديم يتقد، أفضى إلى ركن فسيح رغم مساحته الصغيرة، تبدو اللوحات المعلقة فيه، كنوافذ مفتوحة على الحكايات، جلال الدين الرومي، نزار قباني، يطلان من أشهر قصائدهما، يتناوقان على السيدة المشغولة في الرسم، ويحاولان معرفة هوية الشاعر القادم إليهما، بتهجئة حروف ترسمها، تارة، وتارة بمراقبة شرود سيدة الحديقة، وهي تنظر إلى ليمونتها المنتصرة.