مجلة البعث الأسبوعية

بعد إصدار كتابها “النهايات النصية” د.ديمة بركات: فجوة في الخطاب النقدي بخصوص النهايات والخواتم

أمينة عباس

يُعدّ كتاب “النهايات النصية.. البنية والدلالة.. نماذج من الخطاب الروائي السوري 1980-2000” لـ د.ديمة بركات الصادر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب أول كتاب عربي يتناول موضوع النهايات النصية، حيث واظبت الدراسات النقدية العربية على إهمال هذه العتبة وتغييبها عن التنظير والتحليل في مجمل الكتب التي تناولت موضوع العتبات النصية أو النصوص الموازية، وما يسجّل للدراسة التي قامت بها د. بركات اعتمادها على المخططات والرسوم البيانية التي استغرق العمل عليها شهوراً لتخرج عن التنظير الرتيب الذي اعتادت عليه الدراسات السابقة.. وللوقوف على أهمية هذا الكتاب وخصوصيته كان لنا هذا الحوار مع كاتبته د. ديمة بركات.

*ما أهمية النهايات في النصوص الأدبية؟

**إن أهمية النهايات تنبثق ليس بوصفها إعلاماً باختتام النص بقدر ما تشكل جزءاً أساسياً في الهيكل المعماري للنص وتكتسب -بصفتها نصاً موازياً- موقعاً استراتيجياً متميزاً في تكوين الأثر واكتمال معالم هويته المتفردة، وهي بذلك لا تقبل إلا أن تكون ضرورة لإكمال إنتاج المشهد الكتابي وفق الشروط والوظائف المنوطة بها والتي تشكّل بمجملها قوة توجيهية للقارئ للخروج من النص وفضاءاته المادية المتشاكلة نحو فضاء تأويلي أرحب وأوسع.

*نقول أحياناً “خاتمة” الرواية أو “نهاية” الرواية، فهل من   فارق بين المصطلحين؟

**نعم هناك فارق بينهما، فالخاتمة وإن كانت تعني إغلاق النص مادياً إلا أنه ليس من الضروري أن تعلن انتهاءه اشتغالياً لأن النهاية مرتهنة بتحقق الإشباع الدلالي لدى القارئ، لذا فإن بلوغ خاتمة النص لا تعني انقطاع علاقة القارئ به ما دام الاشتغال حاضراً معلناً استمراريته مع توقف القراءة، وهذا يجعلنا مرهونين بقراءتنا بتساؤل كما قال فيليب هامون: ما الذي يكون ضرورياً ليجعلنا ندرك بأن النص قد اكتمل بالفعل؟ ليضعنا هذا التساؤل أمام حاجة أساسية في التمييز بين النهايات والخواتم من حيث البنية والدلالة، فالاكتمال الذي تحدّث عنه هامون هو الاكتمال الدلالي والتأويلي الذي يعلن فيه القارئ فراغه من النص فراغاً تاماً، أما الخاتمة فهي تعلن اكتماله المادي الذي يكوّن وحدة الأثر الأدبي، وإلا فسوف يكون الكلام مبتوراً وسيكون موقعاً ذات بنية مشوّهة ستفرغه من دوره الجمالي والتداولي في إنتاج عمل متكامل قادر على جذب القارئ واستمالته في مواصلة القراءة حتى الكلمة الأخيرة وتسليمه فضاء التأويل والاشتغال تسليماً شائقاً ومريحاً.

*ما الذي أغراك في اختيار هذا العنوان ليكون موضوعاً لدراستك؟

**لا بد من الإشارة إلى أن تسليط الضوء على موضوع النهايات النصية احتاج إلى وقت طويل ليأخذ موقعه في القراءة النقدية العربية بعد أن هُمّش لحساب موضوعات نصية أخرى، ومع هذا لابد من الاعتراف أن الاشتغال عليه مازال قاصراً وغير مكتمل الرؤية، إذ لم ينتظم ضمن نظرية واضحة ومتكاملة تعطي وصفاً دقيقاً لمعنى النهاية الروائية وماهيتها وتمييزها عن الخاتمة وضبط العلاقة الجامعة بينهما وظيفياً ودلالياً وتكوين فهم مشترك لها قائم على معايير محددة، حيث تكشف القراءة النقدية في مقاربتها للنهايات النصية فجوة كبيرة في الخطاب النقدي بخصوص دراسة ظاهرة النهايات والخواتم تجلت في الخلط المصطلحي والمفهومي والإجرائي بينهما وعدم قدرته على بلورة رؤية كاملة لخطاب النهايات واختزاله بمفهومَي المغلق والمفتوح اللذين ركّزت عليهما مجمل الدراسات التي تطرقت لهذا الموضوع، إضافة إلى عدم تبلور الأدوات الإجرائية لمقاربتها مقاربة نقدية عميقة تمكن الباحث من الولوج إليها وفك أسرارها، الأمر الذي استدعى مني جهداً مضاعفاً في كتابي لتجسير هذه الفجوة عبر الانفتاح على الآخر والاستفادة من المنجز النقدي الغربي في دراسة ظاهرة النهايات لتوليف خلفية نظرية وأرضية معرفية للانطلاق إلى دراستها، خاصة وأن النهاية تفرض وجودها على القراءة الراهنة وتستدعي التوسع في مقاربتها التحليلية، فكان التساؤل في كتابي عن العناصر المتشكلة منها وأنواعها وقدرة القراءة التنظيرية الحالية على إيجاد نماذج تطبيقية لها تكشف خصائصها ومدى ارتباطها بالمضمون والنوع الذي تنتمي إليه، ولم تكتف بالقبض على نصية النهايات فحسب وإنما اتخذتها أداة لتفكيك النص ومواقعه الاستراتيجية التي تهيؤه ليكون أثراً متميزاً.

*ما هو المنهج المتبع في هذا الكتاب؟

**نحت الدراسة فيه نحو قراءة المدوّنة السّوريّة بطريقة تحليليّة معتمدة توظيف المخططات والرّسوم البيانيّة الخاصّة بها واستقراء مضامين ما توافر من الرّوايات السّوريّة التي صدرت خلال هذه الفترة، واستنباط جملة من النّقاط المهمّة المتعلقة بالخصائص الفنيّة التي تميزت بها المدوّنة السّورية خلال عقدي الثّمانينيّات والتّسعينيّات لتكون المنطلق في دراسة “الثّيمة” الأساس في هذا المشروع البحثيّ، ألا وهي “النّهايات”.

*والأسباب التي جعلتك تختارين نماذج من الخطاب الروائي السوري خلال الفترة الواقعة بين 1980 – 2000؟

**تحديد الفضاء الزمني بـ “1980 – 2000” سببه أنني سبق وأن تناولت مرحلة السبعينيات، حيث أردت متابعة وتتبع التحولات الفنية في المدونة السورية ورصدها خلال عقدين، الأول منهما هو امتداد للسبعينيات ويُطلق عليه “مرحلة التأصيل” والثاني يمفصل “مرحلة التجريب” التي تمتد من بداية التسعينيات إلى ما بعد زمن الدراسة، مع الإشارة إلى أن تخوم دراستي تقف عند العام 2000 فهو ليس ضمناً فيها بل الحد الذي تقف عنده عتبتها.

*ماذا عن المعايير التي اعتمدتِها في اختيار الروايات التي كانت موضع دراستك؟

**في البداية لابد من القول أن وجود نحو 359 رواية في الفترة الزمنية التي اعتمدتها في دراستي كان لابد من الاختيار الذي كان فعلاً قصدياً تحكمه الغاية والهدف وليس انحيازاً لتلك الأعمال التيكانت الأنسب من وجهة نظري في بلورة رؤيتي والغاية التي أريد تحقيقها في مقاربة شؤون النهايات، مع تأكيدي على أن النماذج التطبيقية التي ضمها الكتاب لم تكن الوحيدة التي يمكن الاستشهاد بها، بل كان هناك أعمال قيّمة أخرى.

*ما هي أبرز الصعوبات التي واجهتك حين إنجاز هذه الدراسة؟

**أهم هذه الصعوبات كانت غياب المراجع وافتقار الخطاب النقدي للدراسات المتخصصة بها، إلا ما قل منها، إذ كانت في أغلبها تتصف بالرؤية العائمة التي لا تنفذ إلى جوهر غايتي، بالإضافة إلى عدم توافر المراجع الأجنبية في فضاء الدراسة، إذ كان لزاماً البحث عنها في أماكن بعيدة، وهذا تطلب وقتاً وجهداً وعناء،وقد كان أكثرها بلغة لا أتقنها أو ذات لغة تخصصية تستدعي الاستعانة بمن لديهم معرفة لغوية عالية، إلى جانب صعوبة إيجاد بعض الروايات في المكتبات والأسواق، وفقدان بعضها وإغفال المراجع والدراسات التي تناولت المدوّنة السورية بالبحث والتحليل وقد اكتشفت مصادفة أثناء البحث عن محاور أخرى ذات صلة، وهو ما فرض صعوبات في الوصول إلى المصادر نفسها وتدقيق معلوماتها أو الإلمام بكل ما أُنتج في هذه الفترة،وإن أثقل كاهلي هذا إلا أنه خلق حافزاً قوياً لدي للمضي في البحث ومقاربة الإشكاليات التي واجهته عسى أن يكون خطوة نحو دراسات قادمة ومعيناً لما سيأتي منها،

*أي خلاصات خرجتِ بها بعد دراستك لروايات هذه المرحلة على صعيد الشكل والمضمون؟

**نتائج كثيرة توصلت إليها عبر دراستي، أهمها أن الروايات السورية في زمن البحث حققت تطوراً نوعياً وكمياً في منظومتها السردية، إذ تمكنت من التحرر من قيود النمطية والتقليد واقتحام عوالم التجريب، الأمر الذي انعكس على نمو إنتاجها وبروز أصوات جديدة فيها، ولا سيما الصوت النسوي الذي عرف أوج حضوره في تلك الفترة، بالإضافة إلى توجه هذه الروايات نحو فضاءات تعبيرية والنزوع إلى العجائبية ومناوئة المقدس والمحظور،واستثمار تقنيات المفارقة والسخرية والكوميديا السوداء وإعادة كتابة التاريخ، مع بقاء الهمّ الإنساني والوجودي الشاغل الأكبر لكتّابها، إلى جانب التمسك بالموروث التراثي والحكائي في نهل مادتهم، أما على صعيد الشكل الفني خطت الرواية خطوات مهمة في تطورها الفني، فوجدنا اتجاهها نحو البنية الروائية المفتوحة، كما أصبح السرد التعددي أهم ما يميز بنية النص الروائي، إذ عمل الروائيون على تفويض هالة الرّوائي العالم بكل شيء، وكسر حصانته وامتيازاته التي منحوه إياها لفترة طويلة والتي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بهيمنة البطل المستأثر بعملية القص، مع إدراك الكتّاب لأهمية المتلقي في إنتاج قراءة فاعلة مثمرة للنص فتنوعت أساليب اختتام الكتّاب لنصوصهم، ولكن ظلّ سلطان الأيديولوجية مسيطراً على هذه الروايات المختارة ويؤطّرها في اتجاهات فكرية وبقي الكتّاب مخلصين لواقعهم وقضاياه وحريصين على التعبير عن إنسانه ومكاشفة دواخله ونقل ما يعتريه من تأزم وإحباطات في ظل متغيرات عديدة عصفت بتاريخ المنطقة العربية برمتها، والأهم على صعيد فحوى دراستي توجه كتّابنا نحو البنية الروائية المفتوحة،حيث بات شغفهم واضحاً بها.

*ما هي العوامل التي توجه الكاتب لتقديم نهايات مفتوحة أومغلقة برأيك؟

** النهايات مرهونة بعوامل عدة تحدد انفتاح مجالها أو إغلاقها، منها: الرسالة التي يريد النص إيصالها للقارئ، أو نوعية النص ومضمونه، أو الجنوح إلى الحداثة أو إرساء النمطية في التعبير، أو الدور الذي يؤديه المتلقي في عملية الاستجابة والاستقبال، أو المثاقفة مع الآخر والاطلاع على تجارب الآخرين.

*إلى أي نهاية يميل إليها الكاتب السوري برأيك؟

**من المؤكد أن البنية الروائيّة المفتوحة هي التي أصبحت تغوي كتّابنا، فإدراك الكتّاب أهمية المتلقي في إنتاج قراءة فاعلة مثمرة للنّصّ تحرره من معايير القراءات النّموذجيّة السّائدة وقيودها التي تغلق الآفاق أمام معانيه وأسراره الدّفينة، قد انعكس إيجاباً على المنجز الإبداعيّ خلال الفترة المدروسة وفي إعادة النّظر في مقوماته الفنيّة والجماليّة فوجدنا اتجاه المدوّنة السّوريّة نحو “البنية الرّوائيّة” المفتوحة التي تفسح المجال لمتلقيها كي يكوّن رؤيته الذّاتيّة بعيداً عن سلطة الكاتب وشعريّة عناوينها التي تومئ بعناية كتّابنا بها، وإدراكهم الواعي لموقعها الاستراتيجيّ في عملية التّواصل مع قرّائهم. والنّهوض بالكتابة الرّوائيّة مُتَّكِئة على روح الحساسيّة الجديدة في الكشف عن ماهية الإنسان وتضاريس روحه ونفسه في أدقّ التّفاصيل وأحرج اللحظات التي يمرّ بها في موجة عصرنة الحياة ومتغيّراتها.

*وأنت إلى أي نهاية تملين ولماذا؟

**أنا أميل إلى النهايات التي تشغلني لاستنطاقها، وتحيلني إلى تأويلات تفرض فيها عليّ العودة إلى النّص لرسم شبكة علائقية جديدة لعناصره المختلفة، فهي بذلك تعلن حيوية هذا النصّ وديمومة علاقتي به واشتغالي بتأويله، هي النهايات التي تسلمني لقراءات جديدة، فلا تعلن إغلاق فعل القراءة لدي، وهنا تكمن جمالية تلك العلاقة في مكاشفة كوامن ذلك النصّ.

*أشرت في بداية الحوار إلى دراسة سابقة لك تناولت فيها الرواية فيمرحلة السبعينيات. حبذا لو تحدثينا عن فحواها؟

**ركّزت الدراسة على إبراز “التطوّر الفني للبطل في الرواية السوريّة خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي”، من خلال تتبع كيفية استلهام الروائيين السوريين لشخصية “البطل الروائيّ” وتنوّع النماذج النصّيّة التي أنتجوها، وآليات تخليقهم لتلك الصورة داخل البنية النصّيّة حيث حاولت فيها القبض على السمات الجماليّة للبطل الروائيّ، من خلال رصد اتجاه الكتّاب ومواقفهم إزاء شخصياتهم، وبلورة نظرتهم الجديدة في خلق هذه الشخصية التي كانت ومازالت تعدّ أهم عناصر العملية الإبداعيّة للنّاس، فعلى الرغم من دخول التيارات الأدبيّة الجديدة إلى روح الرواية العربية، إلاّ أنّ تلك الشخصية قد حافظت على وجودها كمكون أساسي للنص لا يمكن الاستغناء عنه أو تجاهله وهذا الأمر دفع كتابنا إلى الغوص عميقاً للبحث عن الأدوات والتقنيات الفنّية التي تتيح لهم خلق أبطالهم بما يتفق والرؤية الجديدة.