ثقافةصحيفة البعث

الدراما السورية والبطل الشعبي الأمثولة

آصف إبراهيم

هل تستطيع الدراما التلفزيونية مواكبة التطور الدراماتيكي السيكولوجي للمجتمع؟، سؤال قد لا يجول في أذهان صنّاع الدراما وهم يعدّون وجباتهم الرمضانية المعتادة، لأن التفكير المادي والمعنوي إلى حدّ ما يطغى على كلّ الاعتبارات الأخرى.

لكن قد تأتي، أحياناً، رمية من غير رامٍ تحيلنا إلى رسائل اجتماعية قيمة تنضوى عليها بعض الأعمال، فتقدم أمثولة اجتماعية نبيلة ومؤثرة في تكوين نظم اجتماعية خلّاقة أحياناً.

ويمكن أن نتوقف هنا عند نماذج درامية عدة خرجت من مطابخ صناعة الدراما السورية وحملت أفكاراً قيمة، وهي مسلسلات “مربى العز” للكاتب معين علي صالح والمخرجة رشا شربجي، و”العربجي” للكاتبين عثمان جحا ومؤيد النابلسي، والمخرج سيف الدين سبيعي، و”الزند” للكاتب عمر أبو سعدة والمخرج سامر البرقاوي.

في هذه الأعمال الثلاثة نحن أمام حالة تكريس للبطل الشعبي الخارق الذي يدافع عن المظلومين ويحارب الأشرار الفاسدين، بغضّ النظر عن الهفوات التي تعثر فيها هذا العمل أو ذاك، فقد وجدنا أنفسنا أمام أبطال يتمتعون بقيم إنسانية نبيلة تُؤثِر الخير للناس على حساب راحتها وسعادتها بأسلوب هادئ ورصين لا يخلو من المبالغة المبررة أحياناً التي تفرضها أسلوبية الدراما وحاجتها إلى التشويق والإمتاع في محاكاة لفئات عمرية في طور التنشئة والتكوين الإدراكي لمفاتيح الحياة.

تكريس هذه النماذج من الفروسية بات حاجة ملحة في هذا الزمن برداءته المفرطة مع ما يتبلور فيه من اعتلال أخلاقي ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي والتطور التقني في تشكيل أجوائه، فكان من الحكمة والدراية اللجوء إلى الفضاء التاريخي للانطلاق منه في خلق أمثولة شعبية يمكن البناء عليها في الحاضر، فاستحضار الماضي كبيئة مناسبة لهؤلاء الأبطال الشعبيين، يأتي بسبب استحالة إيجاد مماثل أو حامل موضوعي آنيّ قادر على إقناع المتلقي، وهي حلول ذكية لجأت إليها الدراما السورية لتجنّب تلك المحاكاة في السينما الهندية والأمريكية،على سبيل المثال، التي انطلقت من الراهن في خلق بطولات خارقة تسخر من مدركات المشاهد وتستخفّ بعقله ولا تقوى على التأثير فيه.

في مسلسل “مربى العز” نجد شخصية مناع الطفل الذي اختطفه جمول وألقاه متسولاً في الشوارع التي لم تطغَ على شخصيته أو تكوينه السلوكي المشبع بالرذيلة كما هو متعارف عليه عن أبناء الشوارع، بل بقيت القيم النبيلة والمروءة التي ولد عليها مزروعة في دمه، فكان فعل الخير يلازمه في كلّ مكان يحلّ فيه، يمدّ يد العون لكل محتاج ويردّ الظلم عن الضعفاء والمظلومين، وينصر الخير على الشر، وهذه الأفعال ذاتها نراها عند عبدو العربجي في مسلسل “العربجي”، شاب شجاع يقف في وجه الأشرار والطامعين، ويقدّم نفسه رهينة لفعل الخير ويعرّض نفسه للمهالك من أجل نصرة المغلوب على أمرهم ومساعدة المظلومين دون أن يرجو من وراء ذلك أجراً. وفي مسلسل “الزند ذئب العاصي” نجد شخصية عاصي الذي قُتل والده برصاصة غدر أمام عينه، فيعود لينتقم من قاتله الذي أذاق الفلاحين المسحوقين الجور والمرارة مدعوماً من قبل الآغا المستقوي بالعثماني المحتل.

شخصية عاصي رغم ما لقيته من انتقاد بسبب مفردات الشتائم التي تفوّه بها والتي يراها الكثير من المتابعين أنها مسيئة للجيل الشاب، متناسين أن ما نسمعه في مدارسنا وشوارعنا من مصطلحات ومسبات أسوأ من ذلك بكثير، وهذا يعود إلى خلل اجتماعي تربوي متراكم منذ سنوات عديدة كرّسه ضعف تأثير المنظومة التربوية والتثقيفية الفاعلة في الدولة.

مع هذا يمكننا أن ننظر إلى الجانب الإيجابي في شخصية عاصي التي قُدّمت لها إغراءات مادية ومعنوية كثيرة كان حرياً بها أن تستغلها وترجح كفة الأنا على الآخر، لكن الهدف من رسم هذه الشخصية كان في المقام الأول تقديم أمثولة اجتماعية يمكن الانطلاق منها والاقتداء بها في تنشئة جيل شجاع يرفض الاستكانة للظلم ويأبى التفريط بالحقوق والقبول بالأمر الواقع، جيل يبحث عن التغيير ويناضل من أجل ذلك بتصميم وإصرار مهما استحالت الظروف.

العزيمة والإصرار في شخصية عاصي سمات ضرورية لكي نلوذ بها لبناء قيم اجتماعية تجفف بعضاً من مستنقع الوحل الأخلاقي الذي نغوص فيه في هذه المرحلة المنفلتة من عقال كل المنظومات الأخلاقية والثقافية المؤثرة في التكوين الاجتماعي السلوكي في المجتمع.

لهذا نستطيع القول وانطلاقاً من هذه الأعمال الثلاثة إن الدراما السورية بدأت تأخذ دورها البنّاء في تشكيل لوحة اجتماعية خلاقة، وإن كانت رمية من غير رامٍ فإننا يمكننا أن نبني عليها في المستقبل لتصبح رمية من رامٍ واع ومدرك لمكانة الدراما وتأثيرها البنيوي، ولاسيما أن الأعمال الثلاثة قوبلت بترحيب جماهيري غير قليل.