مخاطر اجتماعية كبيرة نتيجة سياسات اقتصادية خطيرة!
منذ عقود عديدة مضت، ومستلزمات الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعي تشهد ارتفاعا متتابعا في أسعارها، بالتوازي مع ندرة وجود بعضها بين الحين والآخر، فأسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي من البذور والسماد والشتول والغراس وأدوية مكافحة الأمراض الزراعية ارتفعت بشكل كبير، ونفس الحالة بالنسبة للشرائح البلاستيكية والبواري الحديدية والأسلاك والخيوط وخراطيم المياه اللازمة للزراعات المحمية الهامة جدا، نظرا لدورها في تأمين كمية من الخضار في الأشهر التي لا تسمح الظروف الطبيعية بإنتاجها في مواسمها العادية المعهودة.
وترافق ذلك بارتفاع كبير في أسعار كافة المعدات والآلات الزراعية وأجور استخدامها، عدا عن ارتفاع قيمة المحروقات والزيوت اللازمة لها، حتى أن عبوات الخضار والفواكه والحبوب ارتفعت بشكل كبير، وارتفعت أجور نقل المنتجات الزراعية من أماكن إنتاجها إلى أماكن استهلاكها، وارتفعت أجور اليد العاملة الزراعية، والأخطر من ذلك تلك البذور والأدوية الزراعية التي تبين أنها مغشوشة، وكانت لها نتائجها العكسية، والطامة الكبرى في الارتفاع الكبير لأسعار السماد الكيماوي والسماد العضوي وقلة توفرهما.
كل ذلك تسبب في ارتفاع كلفة إنتاج كيلو غرام الخضار أو الفواكه من الفرنكات في خمسينات وبداية ستينات القرن الماضي إلى الليرات في السبعينات والثمانينات، ومن ثم إلى عشرات الليرات حتى بداية القرن الحالي إلى أن ارتفع إلى المئات مع نهاية العشر الأول من القرن الحالي، واستمر التصاعد إلى أن أصبح هذه الأيام بالآلاف، بل وبدأ يتجه إلى عشرات الآلاف لبعض الأنواع..
ارتفاع تكاليف الإنتاج الزراعي هذه أخرجت الكثير من المزارعين الصغار من الإنتاج، فآلاف الحيازات الزراعية غير مستثمرة بل مهجورة، وخاصة حيازات من لديهم مصادر دخل أخرى، أو من استبدلوا حيازاتهم بأكشاك تجارية أو سيارات أجرة، وتم إلغاء أكشاكهم وتضاعفت كلفة سياراتهم من الصيانة والمحروقات وقلة العمل، وليس بمقدورهم العودة للزراعة، لأن ذلك يتطلب استصلاح حالة البوار في حيازاتهم، وهذا الاستصلاح مكلف جدا في الظروف الحالية، عدا عن معاناتهم من المشكلات التي يعاني منها من مازالوا مزارعين، والذين كثير منهم ينسحب تدريجيا من الزراعة، لأن سعر بيعهم لمنتجاتهم أقل مما يكلفهم.
والحالة نفسها بالنسبة للإنتاج الحيواني الذي انخفضت نسبة نموه كثيرا، لا بل تشهد هذه النسبة تراجعا خطيرا نتيجة عزوف الكثير من المربين، بدليل تردي التربية الحيوانية في الريف السوري، فالقرى التي كانت في الماضي تتميز بامتلاك أغلب أسرها أعدادا متنوعة من الثروة الحيوانية والدواجن المنزلية، أصبحت هذه الثروة محصورة بأعداد محددة من الأسر، ولأعداد محددة من الحيوانات، ومعظم ذلك يعود لسياسة الحكومات التي أسفرت عن تهريب قسم كبير من الثروة الحيوانية المحلية المعهودة والمعتادة على التلقيح الحقلي الطبيعي والمقاومة للأمراض، واستيرادها لحيوانات من الخارج تعتمد على التلقيح الاصطناعي وذات مقاومة ضعيفة للأمراض، لا بل أن بعض الأبقار المستوردة وصلت مريضة وكثير منها احتاج للتلقيح أكثر من مرة، وأغلبها لم يعمِّر، ولوحظ عدم جدوى بعض الأدوية البيطرية، وربما كان بعضها ضارا، فيندر أن مربي بقرة أو أكثر لم يخسر، والبقر البلدي القديم المقاوم أوشك على الانقراض.
وأيضا تعرض الإنتاج الحرفي والصناعي بكافة أنواعه لمزيد من الارتفاع بأسعار مستلزماته وأسعار معداته، وانعكس ذلك على أسعار منتجاته.
هذا الارتفاع الكبير في مستلزمات ومعدات الإنتاج الزراعي والحيواني والحرفي والصناعي، حدَّ كثيرا من حجم استهلاك المستلزمات ومن حجم الإنتاج، وتواكب مع ضعف القدرة الشرائية للمواطن، ما حدَّ بدوره من استهلاك المنتجات، وحدَّ من حجم القدرة التصديرية لكثير منها، ما تسبب في الحدِّ من نشاط آلاف المنشآت القائمة، وضعف إمكانية إحداث منشآت جديدة، وهذا بدوره أدي لنقص فرص العمالة وازدياد ظاهرة البطالة، ولا يخفى ما لذلك من منعكسات اجتماعية، فالارتفاع الكبير في مستلزمات مواد البناء وأثاث المنازل حدَّ من القدرة على الزواج، فسعر باب الخشب الواحد مليون ليرة، وسرير النوم العادي الواحد بنصف مليون، والكرسي العادي بـ 25 ألف ليرة، وكيلو اللحم بـ 70 ألف، وبيضة الدجاج بـ 850 ليرة.. إلخ، والتصاعد متتابع.
ويبدو أن الخطورة الحالية في ارتفاع أسعار المواد ستعقبها خطورة أكبر ستتجلى بعدم إيجاد بعضها في السوق ما دامت السياسة الاقتصادية على ما هي عليه، إذ سيتوقف المنتجون لعدم تغطية نفقات منتجاتهم.
والطامة الكبرى أن الحكومة الحالية تبدو عاجزة عن إصلاح أخطاء سابقاتها، بل ويبدو أنها لا تعمل على ذلك، بل تتابع نهج من سبقها، والويل والثبور ما لم تحدث الاستفاقة الحكومية قبل حدوث الفاقة المدوية، وحبذا أن تكون استفاقة المواطن هي السباقة، حيث لا تزال الحلول ممكنة، والمدخل يكون عبر إقامة ورشات عمل متتابعة كبيرة وصغيرة محلية ومناطقية، رسمية وجماهيرية، تسفر عن نتائج سريعة، فقد بلغ السيل الزبى..!!!
عبد اللطيف عباس شعبان (عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية).