من “فهد” البراري إلى “ذئب العاصي”.. الهروب من التناص
آصف ابراهيم
تعرض مسلسل “الزند ذئب العاصي” للمخرج سامر البرقاوي والكاتب عمر أبو سعدة لانتقادات عديدة تتهم صناعه باقتباس الفكرة عن رواية “الفهد” للكاتب السوري حيدر حيدر، فهل نجح الهروب المكاني والزماني، في العمل، عن فضاء رواية “الفهد” في تبديد هذا الاتهام، ونفى فكرة التناص؟ وإلى أي حد نجح صناع العمل عبر محاكاة و مقاربات مكانية ولهجوية في خلق عالم متخيل يحاكي الواقع، ويقرأ تلك المرحلة الزمنية من تاريخ سورية قراءة منطقية موضوعية مقنعة تحمل أفكاراً ورسائل آنية توعوية تستحضر الماضي كعبرة للانطلاق نحو المستقبل؟
يقول حيدر حيدر في رواية “الفهد” ص ٣٧: “وامتدت الأسطورة أكثر، وفي كل مكان من قرى اللاذقية وحماه تهامس الناس عن العاصي، وصوبه فر أنفار من المحاربين القدامى يزودنه بالرصاص ويقاتلون معه، فيشعر القط البري بأنه ما عاد وحيداً، تخفف وطأة الجوع والوحشة زمناً، لكن المسافة عن سيغاتا راحت تبعد وتطول، ومع المسافات امتدت حكاية الفلاح المتمرد في وجه السلطة الباغية، حكاية روتها فيما بعد الصخور والأدغال وأغاني الشعب الحزينة..”.
ومن هنا تبدأ فكرة “الزند”، لكن ضمن فضاء مكاني وزماني متخيل غير قابل للتغلغل في ضمير وعقل المشاهد المحلي، ابن البيئة، رغم نجاحه في حصد نسبة مشاهدة كبيرة نجح أبطال العمل من تحقيقها بحنكتهم الفنية والإخراجية، مستفيدين من رهانهم على جهل المتلقي التاريخي والجغرافي بالفضاء الذي يدور ضمنه العمل بمسمياته المكانية في حوض العاصي داخل النطاق الجغرافي لمحافظة حمص، فهو فضاء متخيل ولا يحاكي الواقع مكانياً ولا من حيث التنوع اللهجوي في المنطقة، فاللهجة التي ينطق بها عاصي شخصية العمل المحورية غير متداولة في أية قرية من قرى حمص، بل هي أقرب إلى لهجة قرى سهل الغاب، النطاق الجغرافي الذي شهد حكاية الثائر أبو علي شاهين، بطل رواية “الفهد”، والتي بالغ الفنان تيم حسن في تقعرها والتلوين بها لكنه لم يكلف نفسه مشقة التعرف على التنوع اللهجوي للبيئة المفترضة للعمل، فجاءت لهجته مغايرة كلياً عن لهجة سكان ريف حمص، وحتى عن لهجة باقي أبطال المسلسل الذين يفترض بأنهم ينتمون إلى بيئة واحدة وتوزع ديمغرافي متقارب.
ولمن يود التعرف على حوض العاصي في محافظة حمص عليه أن يعرف أن نهر العاصي يدخل الأراضي السورية عند تل النبي مندو الأثري الذي يضم أنقاض مملكة قادش القديمة، متجهاً نحو بحيرة قطينة المسماة باسم قرية قطينة، ليخرج منها متابعاً سيره شمالاً بمحاذاة مدينة حمص متجهاً نحو بساتين الميماس التي يخرج منها متغلغلاً في وديان تنتهي إلى بلدة الرستن ليخرج منها متجهاً عبر أراضي شبه صحراوية نحو جبال العلا التي تعترضه وتحرفه غرباً نحو محافظة حماه. والمفارقة التاريخية أن السلطات العثمانية أصدرت فرمانات وأوامر عدة تمنع مزارعي حمص من الاستفادة من مياه العاصي ليبقى حكراً على مزارعي محافظة حماه. ولهذا لا نجد أية مقاربة موضوعية تبرر اختيار الفضاء المكاني في محافظة حمص، الذي يبدو أنه محاولة لليّ عنق حكاية الفهد، عبر ليّ عنق الواقع. فمن يعرف التوزع الديمغرافي لحوض العاصي في محافظة حمص يعرف تماماً أن مسلسل “الزند” اختار الفضاء الجغرافي والتاريخي و”الديالكتولجي”الخطأ، للنأي بنفسه عن فضاء رواية “الفهد”، رغم الاشتغال على حيثيات تلك المرحلة التاريخية التي يمكن أن تقارب الواقع على امتداد الجغرافيا السورية، والتي عانى فيها الشعب السوري على اختلاف أطيافه من ظلم الإقطاع ووحشية العثماني المحتل، وقد تناولت الدراما السورية هذه المرحلة بمحاكاة واقعية عبر أعمال عديدة، منها ملحمة “أخوة التراب” للكاتب حسن م. يوسف، والمخرج المبدع نجدت اسماعيل أنزور، وكذلك تناولها المخرج رضوان شاهين في مسلسل “كوم الحجر” مع الكاتب كمال مرة.
صحيح أن “الزند” يحاول أن يتفرد في تناول حيثيات جديدة ومغايرة أقرب إلى السياسة منها إلى سلوكيات المحتل وأزلامه المحليين، عبر التعرض للدور الانكليزي والماسونية العالمية في المنطقة، لاسيما في مرحلة ضعف السلطة العثمانية، من خلال شخصية السير جونسون، مدير البنك العثماني، لكنه خالف كل من سبقه إلى تناول هذه الفترة في رسم بعض الجوانب الايجابية للمحتل المتمثلة في شخصيتي محمود أغا الضابط العثماني، والوالي، اللذين منحهما سمات تناقض كل الصور النمطية الراسخة في أذهان الناس، والتي قدمتها الوثائق التاريخية والأعمال الأدبية عن العثماني، فالمسلسل قدم محمود أغا كرجل عادل متفهم للواقع يقف إلى جانب المظلومين، ويسعى لتحقيق العدالة وإرساء أسس القانون، وهذه الميزة لم نعهدها سابقاً؛ ولدى المقارنة بين شخصية “عاصي” في “الزند” وشخصية “أبو علي شاهين” في “الفهد”، قد يصعب إيجاد تقاطعات متطابقة ومشتركة بين سيرة الشخصيتين رغم ثبوت التناص الذي يبدو جلياً لكل من يقرأ الرواية، بسبب جنوح كاتب العمل نحو اللاواقعية التاريخية، وفشله في إيجاد المسوغ الدرامي المقنع في تكوين هكذا شخصية يفترض أنها أمية لا تعرف القراءة والكتابة، بسبب غياب أي ذكر للمدرسة أو الكتاتيب المتعارف عليها في تلك الفترة، والتي لم نجد لها ذكراً في “الزند”. ومع هذا، وجدنا أنفسنا أمام شخصية مثقفة إلى حد ما، قادرة على قراءة الخرائط وفهم خفايا السياسة، وكأنه خدم في جيش السلطنة جنرالاً، في حين كان أبناء الفلاحين العرب يخدمون في هذا الجيش مقاتلين وخدم وحرس مقموعين، لا يحق لهم سوى الموت في ساحات المعارك التي تزجهم بها السلطة العثمانية التي مارست أبشع أنواع محو الهوية والتغيير الديمغرافي. ومنطقة حمص أنموذج واضح المعالم لسياسة التتريك، فكيف استطاع عاصي في ظل دولة قمعية ظالمة أن يتمرد على السلطنة، ويسرق البنك العثماني، ويشتري الأراضي، ويسرح ويمرح متنقلاً بين القرى والمدن دون أن يطارده جنود السلطنة؟
لهذا لا نستطيع أن نسمي العمل سوى فانتازيا تاريخية تقوم على محاكاة واقع تاريخي وجغرافي افتراضي للهروب من حقيقة التناص مع سيرة الثائر المعروف، أبو علي شاهين، ابن منطقة مصياف، الذي نسجت حوله الحكايات وتحول إلى بطل شعبي خلده الكاتب المبدع حيدر حيدر في روايته “الفهد”. وفي حال الغوص أكتر في فهم سيناريو “الزند” بخطوته الدرامية، نجد أن الكاتب يقحم جانباً يتجنى فيه على البيئة الاجتماعية، وما من مبرر درامي لوجوده، وهو تخلي القرويين عن بناتهم اللواتي يغرر بهم ورميهم في قصر الباشا خدماً وجواري كشخصية “شمس”، والفتاة الأخرى الصغيرة التي اصطحبتها أمها لتقديمها إلى “زلمة” الآغا تتوسل إليه أن يقبلها خادمة في القصر، لأن والدها سوف يذبحها بعد أن غرر بها أحد الشبان وتخلى عنها.
مسلسل” الزند” رغم الإيقاع الدراماتيكي المشوق، افتقر إلى الحبكة المتماسكة والمحاكاة الواقعية المقنعة، واعتمد على شطحات الخيال الفضفاضة ومنطق اللامعقول