تثقيل أوراق القوة لطرد المحتل الأمريكي من سورية
البعث الأسبوعية- علي اليوسف
تثبت الوقائع، وتحديداً بعد العمليات النوعية التي نفّذتها المقاومة الشعبية السورية، يوماً بعد يوم، أن القوات الأمريكية باتت مجردة من أسباب استمرارها في احتلال أراضي الشمال والشمال الشرقي من سورية.
هذه العمليات، وإن كانت ضيقة في ميدانها، إلا أنها كبيرة بنتائجها واستحقاقاتها، وما يؤكّد ذلك هو التطوّرات التي تشهدها المنطقة التي تجعل من هذا العمل المقاوم علامة فارقة في هذا التوقيت، لأنها تأتي في قلب ما تشهده المنطقة كلها من تطوّرات ومتغيّرات تعزّز وتضاعف أوراق القوة لدى سورية تحديداً.
في هذه التطورات بات المحتل الأمريكي في ورطة كبيرة، والدلالة على الورطة تأتي من الرسالة التي وجّهها مسؤولون أمريكيون سابقون إلى الرئيس جون بايدن يطالبون فيها بسرعة التحرّك لاحتواء ما يمكن احتواؤه على الساحة السورية، سياسياً بوقف ما سمّوه “الانجراف الإقليمي” باتجاه سورية، وعسكرياً لأن هذا الانجراف الإقليمي لا بد أن ينعكس سلباً على الوجود العسكري الأمريكي في سورية، والأخطر بالنسبة لواشنطن أن يتم انجراف دولي -هناك دول أوروبية ترسل إشاراتٍ حول رغبتها بأن تحذوا حذو الدول العربية في استئناف العلاقات مع سورية- يحرج، بل يعرّي الوجود الأمريكي غير الشرعي في سورية، وخاصةً أن هذه الرسالة الموقعة أتت من مسؤولين أميركيين ما زالوا مؤثرين، وأبرزهم مدير وكالة الاستخبارات المركزية سابقاً جون ماكلولين، والمبعوث الأميركي الخاص لسورية سابقاً جيمس جيفري، والجنرال المتقاعد في مشاة البحرية أنتوني زيني، الذين أكّدوا جميعاً أن إدارة بايدن عاجزة في سورية، متسائلين أين أمريكا وحلفاؤها.. لا يمكن رؤيتهم في أي مكان؟.
أما في خلفيات هذه الرسالة، فلا شك أن هناك قراءة واقعية بأن الدولة السورية تتجه نحو نصر سياسي، وأن إدارة بايدن في مسار التدهور في سورية وعموم المنطقة، وبالتالي سينعكس على وجودها العسكري الذي بدأت المقاومة الشعبية السورية وحلفاؤها -عملية يومي 23 و24 آذار الماضي- بكسر كل ما رسمه المحتل الأمريكي من خطوط حمراء لجهة قصف عمق الوجود الأميركي في سورية، ودكّ قلب قواعده العسكرية بوابل من الصواريخ، في رسالة واضحة للولايات المتحدة بأنها لم تعُد تمتلك اليد الطولى في المنطقة وفق قواعد اشتباك وقواعد ردع جديدة.
إن تطوّر العمليات المقاومة سيشكل بداية نهاية الاحتلال الأمريكي في سورية لأسباب كثيرة، أهمها أنه لأول مرة يقع قتلى ومصابون بين الأمريكيين، وهو أول هجوم مباشر والأطول زمنياً والأوسع قصفاً بما يُرسل للمحتل الأميركي رسالة بأن كل قواعده غير الشرعية في مرمى نيران المقاومة وحلفائها، والأهم من هذا وذاك فشل النظام الدفاعي المتطوّر جداً في القواعد الأميركية في التصدّي لهذه الهجمات التي تمّت بالصواريخ والمُسيّرات، وهذا سينعكس بصورة سلبية جداً على معنويات المحتل الأمريكي وقيادته في البيت الأبيض من خلال تثقيل التكلفة البشرية للمحتل بما يضعه مباشرة أمام ضغط الرأي العام الذي سيجبره على الانسحاب من سورية.
صحيح أن الدولة السورية لا تستطيع أن تدخل في مواجهة عسكرية مع أمريكا الدولة العظمى التي تحتل قواتها حقول النفط السورية، إلا أن مهمّة مواجهة قوات الاحتلال الأمريكي واستعادة السيادة الوطنية على الآبار النفطية شرق الفرات أوكلت إلى المقاومة الشعبية التي ما انفكّت تتصاعد في ظل إدارة الرئيس بايدن.
من هذا المعطى، وبغض النظر عن الصراع الإقليمي والدولي على الأراضي السورية، فإن المقاومة الحقيقية ضد الاحتلال الأمريكي تحتاج إلى بيئة خاضنة، وتعدّ الجزيرة السورية هي البيئة الشعبية الحاضنة للمقاومة، وخاصةً أنها تستند إلى تراث عريق من النضال ضد الاستعمار الفرنسي في العشرينيات من القرن الماضي، ومن هنا هي قادرة على إعادة تعبئة السكان وطنياً، وإعادة التوازن إلى حياة المجتمع السوري.
الهدف من طرح مفهوم الحالة الطبيعية للمقاومة وحاضنتها الشعبية مرتبط بشكل جدلي بحقيقة الوجود العسكري الأمريكي غير الشرعي في الشمال الشرقي السوري، إذ من منظور القانون الدولي، يعدّ الوجود العسكري الأمريكي احتلالاً موصوفاً، بصرف النظر عن أن الولايات المتحدة تشرعن هذا الوجود من خلال ادعائها أن القوات الأمريكية جاءت لأول مرة إلى سورية ضمن حملة إدارة الرئيس السابق باراك أوباما عام 2015 لمحاربة تنظيم “داعش”.
لذلك إن الوجود العسكري الأمريكي وجود لا يستند إلى أي تفويض قانوني دولي أو محلي أمريكي، وهو الأمر الذي أقرّ به المسؤول السابق في إدارة الرئيس باراك أوباما، والمستشار الحالي لبرنامج الولايات المتحدة في مجموعة الأزمات الدولية، بريان فينوكين، في حديث إلى مجلة “فورين أفيرز” مطلع هذا العام، إذ قال: “إن العملية العسكرية الأمريكية في سورية تجري من دون تفويض، وتقوم على أرضية قانونيّة ضعيفة، لكن واشنطن التي تمسك بخناق المجتمع الدولي، وتدوس على كل القوانين والأعراف الدولية، موّلت عن طريق الكونغرس عمليات قواتها العسكرية هناك، تحت بند محاربة إرهاب تنظيم داعش”.
في الخطاب الإعلامي الأمريكي تتحدّث الإدارة الأمريكية عن وجود نحو 900 جندي أمريكي في سورية معظمهم في الطرف الشرقي من البلاد، لكن في الواقع تقيم الولايات المتحدة الأمريكية في الأراضي السورية قواعد عسكرية ونقاطاً تتمركز جلّها في منطقة شرقي الفرات والبادية السورية، وتعدّ قاعدة “حقل العمر” في ريف محافظة دير الزور واحدة من أكبر وأهمّ القواعد الأمريكية هناك، وهو من أغزر الحقول النفطية السورية إنتاجاً، وتقوم القوات الأمريكية بسرقة نفطه بالكامل.
وتشرعن الولايات المتحدة الأمريكية وجودها تحت عنوان محاربة إرهاب “داعش”، لكنها في الحقيقة تضطلع بدور الاستعمار الجديد الذي يقوم على ركيزتين في المنطقة: الأولى نهب وسرقة خيرات الشعب السوري في المنطقة الشرقية، ولا سيما أن القوات الأمريكية تحتل آبار النفط والغازِ، وتقوم بالسطو على كامل إنتاجها وسرقة إيراداتها عن طريق العراق، وتقطع طريق بغداد – دمشق بهدف إضعاف محور المقاومة ومنع أي وحدة تكاملية بين البلدين، وهو ما يخدم الأهداف الاستراتيجية للمخطط الأمريكي في المنطقة. والركيزة الثانية، خدمة مصالح وأمن كيان الاحتلال الصهيوني بالتلازم مع الأمن القومي الأمريكي.
من هنا تنبع أهمية تطوير المقاومة الشعبية من كونها السبيل إلى طرد الاحتلال الأمريكي، وعودة النفط والغاز والقمح للشعب السوري، واستخدامه في سبيل إعادة بناء الاقتصاد السوري وبدء إعادة الإعمار، لأنه الطريق الوحيد للتحرّر من الاستعمار الأمريكي الجديد الذي لا يريد حلاً للأزمة السورية، بل أن تظل سورية ساحة استنزاف مالي وسياسي وعسكري للقوى الإقليمية والدولية.