نهاية “ستارت 2” استمرار منطقي في مواجهة التهديد المعلن
هيفاء علي
في إطار الطابع الجديد للعلاقات الروسية الغربية التي نشأت منذ بداية عام 2022، كان تعليق الاتحاد الروسي لمشاركته في معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية “ستارت 2” استمرارا منطقيا ومتوقعا تماماً في مواجهة التهديد المعلن والمنفَّذ جزئياً من قبل الغرب الجماعي تجاه روسيا. لذلك شرعت روسيا في الإلغاء القانوني للقيود المفروضة على تطوير تسليحها الاستراتيجي. وطيلة عدة أشهر، طالبت الولايات المتحدة الأمريكية مراراً وتكراراً بحقها في تفتيش المواقع الاستراتيجية الروسية، وهو ما قد يبدو مفاجئاً في ظل الظروف السياسية الحالية، مع العلم أن الولايات المتحدة، من جانبها، شرعت في خلق عقبات مصطنعة أمام المعاملة بالمثل للزيارات المنصوص عليها في المادة 11 من المعاهدة، من خلال عدم إصدار تأشيرات الولايات المتحدة للمراقبين الروس وإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية، ما قد ينقلها إلى أراضيها، وهو أمر يعتبر، بحكم القانون، انتهاكا مباشرا.
ومع ذلك، مع تجميد مشاركتها في المعاهدة، أكدت موسكو أنها ستواصل “الاحترام الصارم للحدود الكمية للأسلحة الهجومية الاستراتيجية” بصرف النظر عن الاتفاقية الحالية، لكنها ستكون “جاهزة لاختبارات” أسلحة نووية إذا نفذتها واشنطن أولاً، وهذه الخطوة الاستراتيجية الروسية الجديدة حق مشروع نظراً للعداء المفتوح والمتزايد للغرب الجماعي الذي ينجذب حول الولايات المتحدة تجاه روسيا، فلن تسمح روسيا بأن تتعرض قواتها النووية لسيطرة العدو.
في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من جانب واحد من جميع الاتفاقات الدولية الرئيسية بشأن الحد من الأسلحة النووية، باستثناء تلك المتعلقة بعدم انتشار الأسلحة النووية، الموقعة في عام 1968، جاء الانسحاب في حزيران 2002 من معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية أنظمة الدفاع الصاروخي، تلاه الانسحاب في أيار 2018 من الاتفاق النووي الايراني، ومن ثم كان هناك الانسحاب في آب 2019 من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، وسحب معاهدة “الأجواء المفتوحة” في آيار 2020 بشأن التحقق من التحركات العسكرية والقيود.
وبحسب المحللين الأوروبيين، تعتبر المبادرة الروسية في شباط 2023 بالفعل أخباراً ممتازة للاستراتيجيين الأمريكيين، حيث اكتسبت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لأكثر من 30 عاماً، يقيناً بأنه في مستقبل الآفاق المرئية لن تواجه بعد الآن تهديدات وجودية مؤهلة على هذا النحو، ولن تكون أكثر انخراطاً في النزاعات الكبرى التي تتطلب موارد عسكرية كبيرة، وبعد ذلك تم وضع سياسة عامة لسحب الاستثمار في قطاعات الدفاع، وتم تنفيذها منذ ذلك الحين بنجاح لا يمكن إنكاره. ولكن كل المبادرات المنبثقة عن الأحزاب لصالح أوروبا مستقلة وقوية، اقتصادياً، وعسكرياً أيضاً، تمت معارضتها.
وعلى وجه الخصوص، الكبح المستمر على مستوى جميع الاتفاقيات في مجال التعاون في مجال صناعة الأسلحة بين قوتين دافعتين في قلب الاتحاد الأوروبي، هما فرنسا وألمانيا، ما قد يؤدي إلى تطور كبير في الدفاع الأوروبي الذي اضطلعت به في السنوات الأخيرة القوة الألمانية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة سياسياً، حيث أدى هذا الكبح إلى شل إمكانية إنشاء كتلة دفاعية أوروبية مستقلة حقيقية. وأدى هذا التحييد إلى الضعف الكبير للمنافس الأوروبي في مجال التسلح، وتوسيع سوق صناعة الأسلحة الأمريكية على الأراضي الأوروبية، وقبل كل شيء تحييد خطر إنشاء كتلة دفاعية أوروبية مستقلة مقابل الولايات المتحدة الأمريكية. واستجابة للأحداث التي وقعت منذ بداية عام 2022، ولغاية السنوات العشر المقبلة، على الأقل، ستُجرى استثمارات كبيرة في إعادة تسليح الاتحاد الروسي من جهة، والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى.
إذا كانت صناعة الدفاع الوطني على الجانب الروسي هي التي ستشهد زيادة كبيرة في أنشطتها التي كانت بالفعل على طريق التطور التدريجي لأكثر من 10 سنوات، فإن الولايات المتحدة هي التي ستلعب الدور الرئيسي في إعادة تسليح القارة العجوز، الأمر الذي سيؤدي بالفعل إلى إنشاء قوة دفاع أوروبية حقيقية، ولكنها لن تتمتع باستقلالية تجاه معلمها.
خلال الحرب الباردة، استخدم الغرب الجماعي الانخفاض الكبير في أسعار الوقود الأحفوري ضد الاتحاد السوفييتي جنباً إلى جنب مع الزيادة الكبيرة في الإنفاق العسكري في سباق التسلح المفروض، من أجل العمل على انهيار اقتصاده. واليوم، الاقتصاد الأوروبي على وشك الانكماش، مصحوباً بزيادة غير مسبوقة في أسعار الوقود الأحفوري مقترنة بالزيادة الكبيرة في الإنفاق العسكري في سباق التسلح الذي لم يعد من الممكن تجنبه بعد تخلي روسيا عن مشاركتها في معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية. ونتيجة لهذه العمليات، سيتم إنشاء توازن جيوستراتيجي جديد لن يعتمد بعد الآن على الاتفاقيات والمعاهدات والشراكات بين روسيا والغرب الجماعي، وإنما يعتمد على التكافؤ العسكري المعدل في الوقت المناسب بين الأطراف.
من الواضح تماماً أن الاتحاد الروسي ليس لديه نية، سواء في الماضي أو في الوقت الحاضر، لخوض حرب ضد دول الاتحاد الأوروبي، بل هذه الحرب موجودة فقط في الخيال الجماعي للطبقة الحاكمة الغربية، كما أن النفقات الهائلة في المستقبل لبعض بلدان الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك فرنسا وألمانيا، فيما يسمى بإعادة التسلح التقليدية ستكون التزاماً مالياً لا علاقة له بالتهديد الروسي الافتراضي، لا من قريب ولا من بعيد. وعلى الجانب الروسي، تُعتبر قوة الردع النووي عنصراً كافياً لتنفيذ مهمتها، وهي ثني الخصوم عن إشراك جيوشهم في مواجهة مباشرة مع روسيا، والتي، وفقاً للعقيدة العسكرية الروسية الحالية، من شأنها أن تؤدي مباشرة إلى الرد الانتقامي.