هزّ الرأس وقال: أنا أهوى الأقوال!!
رائد خليل
الزمن كفيل بإنهاك الإنسان وإضعاف قدراته، فتتعثر مشاريعه وسط الطريق. وتلك القاعدة تنطبق أيضاً على الخيرات التي يكون الإنسان قد راكمها لقاء كدح عظيم ومخاطر جسيمة.. وعندما تقع بين يديه يعجز عن جني ثمارها والاستمتاع بها ليدرك في الأخير أنه يكدّ من أجل لا شيء،
هذا الشخص وأمثاله يشبه بمن بذل الغالي والنفيس لأجل حصوله على مكسب، وحين يحصل عليه تخذله قواه فيصبح عاجزاً عن تقلده !
هكذا هي الأشياء تأتينا دائماً بعد فوات الأوان، أو بالأحرى لا نصل إليها إلا بعد فوات الأوان.
هذا الكلام لشوبنهاور… حكم ومواعظ في غاية الأهمية ترسم ملامح الحالة العامة دون تقطيع أو بتر لمفاهيمها.
إذن، إنّ تدجين المفاهيم لرسم ملامح الحالة القطيعية، هي محاولة لإعلاء شأن الجرس المعلّق في جيد الكبش (المرياع).
تستطيع وأنت بكامل جبروتك أن تقود نداء الفصام.. وتستطيع أن تطلق آخر رصاصة رحمة على جسد الثقافة المتهالك أساساً..!
توصيفات قهرية لحالة تعسفية.. سأحشرك بزاوية وألقي عليك أصابع الاتهام..انظر جيداً إليّ.. “إنْ لم تكنْ مثلي” فأنت ضدي وخارج نطاقي والسرب المدجن لن يشفع لك… تباً لك.. عُد إلى مساري.. أنا وحدي فقط.. سأجعل الشمس تشرق من الغرب.. مرة قالها “كاليغولا” المتكبر المتجبر ومضى..!
حقيقة، يخجل الخجل من التوصيف، ولهذا نقع في مطب التأويل، ذهنيات تتربع على مساحات مصممة بحسب العرض والطول والطلب.
فهل سمعتهم عن سرير بروكست؟
سأروي لكم تلك الميثولوجيا اليونانية، وأشهد أن الطبيعة متوالدة في حكمها وقصاصها..
تقول الأسطورة إنّ بروكست الحداد كان يملك سريراً حديدياً. يقوم بروكست بدعوة أي مسافر يصادفه في طريقه ليستضيفه في مخطط جاهز، إذ كان يدعوه إلى النوم في ذاك السرير الحديدي المعشق بألف استفهام!
والمفارقة أن بروكست كان مهووساً بقضية طول الضيف؛ وكلما كان الضيف أطول من السرير، قام بروكست بقطع رجلي الرجل ليتناسب مع السرير؛ وفي حال كان أقصر من السرير، قام بمطّ جسم الرجل مطاً لا مثيل له، دون النظر والالتفاف إلى طقطقة العظام الهشة أساساً من حظ الضحية وواقعه السيئ الذي قاده إلى هنا؛ يضاف إلى ذلك عامل آخر هو الطريق الأوحد المرسوم للعبور، في منطق الخط الإلزامي الإجباري.
ورداً على حماقاته وصلفه وعنجهيته وتعاليه، قام أحدهم بإلقاء القبض عليه ووضعه على سريره بالطريقة نفسها وقطع رأسه..
فمتى يظهر هذا الـ “أحدهم”؟
الصمت في كثير من الأوقات ليس دليل حكمة كما يشاع، فكم من بروكست في حياتنا وفي أوساطنا الثقافية والفنية التي لم تسلم، ولم تستطع أن تنأى بنسفها عن ميثولوجيا بروكست ومغامراته، بل اتخذت من الأسطورة منهجاً عفناً.
على طاولة النقاش طابقان: الأول للأقنعة المتلونة، وطابق آخر يُسمى “النسف من تحت الحزام”..
أحزمة متنوعة الخصال والصفات، ولا يتوانى عشاقها عن التفنن بالمسميات ولصق عناوين وزوايا براقة.
جوهر حكاية بروكست لم ينته، وعلى الرغم من الارتباك الحاصل و”الغرغرينا” المستشرية، يستمر إخضاع الآخر للمقياس المرسوم، فأين المفر؟
إياك أنْ تجرب شيئاً مغايراً، فالسرير لك بالمرصاد، وقد ابتكرنا أساليب جديدة في القياس توافقاً مع مقتضيات الحال!
إياك أن تحلم بواقع ثقافي وصحفي أفضل، فنحن أولاً لا نحب أسماء التفضيل!
سنقتحم أحلامك ونلقيك في مجاهل النسيان، ولك الفتات، ولنا تقاسم العناوين العريضة!
لا اعتقد أن الأطناب الصوتية باتت قادرة على الاهتزاز، فتعالوا ندغدغ خلواتنا، ونكتب على جدران القادمات بعض آهاتنا؛ ولا تكونوا شيئاً، فالشيء لا يحب أن تكونوا..
سأل الفيلسوفُ الطحانَ عن سبب وضع جرس في رقبة الحمار الذي يقوم بجرّ حجر الرحى، فأجاب الطحان: يا سيدي الفيلسوف، كما تعلم أنّ اختفاء صوت الجرس المعلّق برقبة الحمار يدلّ على توقف الحمار عن السير؟ فردّ الفيلسوف: طيب، ماذا لو توقف الحمار وهزّ رأسه؟
فأدار الطحان ظهره للفيلسوف قائلاً: لقد ربطت الجرسَ في رقبة حمار، وليس في رقبة فيلسوف!
إذن، اجمعوا كتبتكم وأشعاركم ورسومكم، واطمروها هناك بعيداً عن عيون بروكست، وتجنبوا النوم على سرير معدني حفاظاً على ما بقى من حركة فم تشي ببريق ابتسامة!