الجلاء.. ملاحم بطولية كتبت بدماء الشهداء والمسيرة مستمرة!!
يحيي أبناء السويداء كل عام ذكرى عيد الجلاء أمام صرح الثورة السورية الكبري في بلدة القريا مسقط رأس المغفور له سلطان باشا الأطرش.. المكان يعطي بعداً إضافياً للاحتفال، فهو يشكل رمزاً مهما لأبناء المحافظة يجددون فيه عهودهم الوطنية، والزائر للصرح يقرأ حكاية الجلاء كاملة عبر لوحته الجدارية التي نقرأ من خلالها انطلاقة الثورة السورية الكبرى من جبل العرب، وتوسعها وانتشارها لتشمل كافة المناطق السورية، والمتحف الذي يضم مقتنيات الثوار من وسائل قتالية بدائية استخدمت في مراحل الثورة.
قصة الجلاء
شكلت حادثة أدهم خنجر الشرارة الأولى لانطلاق الثورة السورية الكبرى، فقد حاول خنجر اغتيال غورو وهرب من الفرنسيين وأقام في دار سلطان الأطرش، لكنهم قاموا باعتقاله متجاوزين التقاليد العربية في حماية الضيف. ويروي الباحث سلامة عبيد في كتابه “الثورة السورية الكبرى” أن الأطرش جهز قوة واشتبك مع الفرنسيين في معركة تلّ الحديد (1922)، والتي أدت إلى القضاء على فرقة بوكسان وأسر 4 جنود له فاوض عليهم مقابل فك الحصار عن السويداء وقلعتها، لكن فرنسا سرعان ما أرسلت أدهم إلى الإعدام في بيروت ودمرت منزل سلطان الأطرش الذي لجأ مع الثوار إلى الأردن، مدة سنتين عمل خلالها على جمع الرجال وشحذ الهمم لمقاتلة الفرنسيين وعاد إلى الجبل واكتسب شعبية هائلة.
انطلقت الثورة من جبل العرب لتشمل سورية كلها، وكانت أولى القرى التي استجابت لنداء الشرف هي قرية أم الرمان التي رفعت أول بيرق في الثورة، في العشرين من تموز 1925، وعلمت فرنسا بوجود سلطان الأطرش في أم الرمان فأرسلت طائراتها لقصف القرية وكانت أولى عمليات الثورة العسكرية إسقاط طائرتين عسكريتين فرنسيتين وأسر احد الطيارين وهاجم الثوار الحامية الفرنسية الموجودة في قلعة صلخد وأحرقوا دار البعثة الفرنسية.
معركة الكفر
ويذكر عبيد في كتابه أنه، في صباح الحادي والعشرين من تموز، انطلقت حملة فرنسية بقيادة القائد نورمان واتجهت نحو قرية الكفر واستقرت حول نبعها وهدد بالقبض على سلطان ورجاله.
ويضيف: باغت الثوار الجنود الذين لم يستطيعوا الوصول إلى أسلحتهم الثقيلة ولم تستمر المعركة أكثر من نصف ساعة حيث بدأ القتال بالسلاح الأبيض ودخل الثوار بين الفرنسيين وقتل نورمان وأبيدت الحملة كلها تقريباً.
وكانت خسائر الثور في معركة الكفر أربعة وخمسين شهيداً وتقول المراجع الفرنسية أن 172 فرنسياً قتلوا في المعركة، ولكن الحقيقة أن الخسائر أكثر من ذلك بكثير.
معركة المزرعة
وفي الثاني والثالث من شهر آب استطاع الثوار بعددهم القليل هزيمة حملة ميشو في الموقعة الشهيرة في المزرعة، علماً أن الحملة كانت كبيرة عدة وعتاداً وجنوداً، وقدرت بأكثر من أربعة ألاف عسكري بصحبة ستة مدافع كبيرة وثلاث بطاريات وسرب من الطائرات وعشر مصفحات. واستطاع الثوار أن يلتحموا بالجنود الفرنسيين ويحولوا المعركة لقتال بالسلاح الأبيض ويسطروا أروع ملحمة في تاريخ سورية الحديث. وقد أسفرت المعركة عن هزيمة كبيرة للقوات الفرنسية ومقتل الجنرال ميشو وقد صدم الفرنسيون بهذه النتيجة حيث وصفها الجنرال أندريا بأنها “حمل ثقيل على سلام سورية وضربة قاسية على نفوذنا واحترامنا”. وفي الثالث والعشرين من أب 1925، أعلن سلطان الأطرش الثورة رسمياً ضد الفرنسيين ووجه بيان الثورة السورية الكبرى.
وحدة وطنية
حفيد قائد الثورة السورية الكبرى، المهندس ثائر الأطرش، يستذكر بيان الثورة التي الذي خاطب أحفاد العرب الأمجاد، وقال لهم: “هذا اليوم ينفع فيه المجاهدين جهادهم والعاملين في سبيل الحرية والاستقلال عملهم، فلننهض من رقادنا ولنبدد ظلام تحكم الأجنبي في سماء بلادنا. لقد مضى علينا عشرات السنين ونحن نجاهد في سبيل الحرية والاستقلال، فلنستأنف جهادنا المشروع بالسيف بعد أن سكت القلم ولا يضيع حق وراءه مطالب”.
ويتحدث الأطرش عن المعاني والدلالات الوطنية والقومية فيقول: لقد آمن الثوار بوحدتهم وقوتهم وكرامتهم وإرادتهم في تحرير أرضهم المغتصبة، وبرهنوا للعالم أجمع أن الإنسان العربي يأبى الذل والهوان، ويدافع عن أرضه وكرامته بالغالي والنفيس ضمن وحدة وطنية قلّ نظيرها، هذه الصفات التي جمعت أبناء الوطن كانت الأهم التي ميزت الثورة السورية الكبرى عبر شعارها الشهير: “الدين لله والوطن للجميع” الذي اعتبره قائدها العام المغفور له سلطان باشا الأطرش مبدأ ونهج حياة، وليس شعاراً فحسب، وكان لهذا الشعار الدور الكبير في توحيد صفوف الثوار السوريين بكل فئاتهم وأطيافهم على ساحة الوطن كله خلف هذا القائد في مقاومة الاستعمار الفرنسي الغاشم، حيث آمن ورفاقه بحرية الأمة العربية ووحدتها، وكان لهم دوراً بارزاً مع كافة أحرار الأمة في الثورة العربية الكبرى، فكان فرسان جبل العرب بقيادته في طليعة الثوار الذين وصلوا إلى دمشق، ورفعوا العلم العربي فوق دار الحكومة فيها بالاتفاق مع الشريف حسين للتدليل على عروبة الثورة.
الجلاء والبناء
العلاقة بالأرض التي تجسدها معاني وقيم الجلاء ليست علاقة عاطفية، إنما هي علاقة انتماء واسع وعميق للوطن ترسخ بالممارسة والفعل والسلوك وثقافة المحبة والتسامح، وذلك كله أداتنا في مواجهة المستعمر الجديد الذي يدخل من بوابة العقل أكثر مما يدخل من بوابة الجغرافيا.
ويقول المهندس أنور الحسنية أنه يمكن قراءة الجلاء في إطار ثلاثة أبعاد أساسية: أولها البعد الدولي حيث شهد العالم بعد الحرب العالمية الثانية تصاعداً في نضال الشعوب من أجل الاستقلال الوطني في إطار وعي عالمي شعبي لمواجهة ظاهرة الاستعمار وبروز شكل جديد لهذه الظاهرة غير الوسائل السياسية العسكرية والاقتصادية، كتشكيل الأحلاف وبث الخلافات والحروب الأهلية والضغوط الاقتصادية وغيرها.
وفي البعد العربي بين الحسنية إن الأحداث والتطورات أثبتت منذ مطلع القرن العشرين ظاهرة وحدة المنطق والفعل الاستعماري ضد الأمة العربية وهو ما تجلى في وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو، وبروز وحدة النضال العربي ارتكازاً إلى قومية المعركة من جهة، والى اعتبارها معركة ضد قوى الاستعمار وأعوانه وأدواته من جهة ثانية، إضافة إلى رسوخ مضامين ثابتة في الوعي العربي تتعلق بإزالة ما خلفه الاستعمار من تخلف وجهل وفقر، وكذلك تلاقي الأحزاب والتنظيمات السياسية والوطنية والتقدمية في إطار حركة التحرر العربي ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي.
وقال الحسنية: عندما نتحدث عن الجلاء فإننا نتحدث عن نتيجة طبيعية منطقية لتطور الوعي والفعل النضالي ضد ظاهرة الاستعمار هذا الوعي الذي أثبته شعبنا دوماً في كفاحه ضد قوى الاستعمار، وما معركة ميسون إلا دليلاً راسخاً على الرفض المسبق للاستعمار الفرنسي حين دخل أرض الوطن عندما أصر البطل يوسف العظمة على المواجهة ليربط بهذه المواجهة بين حصيلة تراكم الوعي الوطني وبين نتائج هذا التراكم في مستقبل الوطن، ثم جاءت الثورات الوطنية على امتداد مساحة الوطن، منها ثورة الساحل بقيادة الشيخ صالح العلي وثورة الشمال بقيادة المجاهد إبراهيم هنانو ومعارك كثيرة في كل ارجاء سورية هذه الثورات التي تعتبر أصدق تعبير عن مجمل العوامل التي تحدثنا عنها وهي المخزون الوطني الذي زاد قوة الارتباط بالأرض.
وبين الحسنية أنه مثلما كان الجلاء نتيجة وثمرة للتضحيات والعمل الوطني فقد شكل أساساً لبداية مرحلة جديدة في بناء الدولة وحياة سورية.
دروس الجلاء
وتبقى دروس وعبر الجلاء، وقصص البطولة التي رسمها مجاهدو الثورة السورية الكبرى في كافة بقاع الوطن والتراب المعطرة بدماء الشهداء، كلها حوامل نصرنا في تلك الحرب القذرة، كيف لا وقد اختلطت دماء الأحفاد بدماء الأجداد، وتعانق الجراح قلوب الأمهات في سماء الوطن لترسم ملامح النصر القريب.
يقول الدكتور فايز عز الدين: إن الكفاح سلسة متواصلة فأهلنا قاتلوا بمقدار ما يملكون من قوة، ونحن اليوم نقاتل بمقدار ما نملك من قوة، ومع ذلك ما زلنا نشعر أننا أوفياء لذلك البطل العظيم الذي قاتل المحتل بشكل أعزل ونحن أوفياء للوطن الذي ينتظر أن ينتصر فينا وعلينا أن نكون عدة الوطن للنصر والمهم هو الانتصار على السلوكيات التي خرجت عن قيم الجلاء في ظل تراخي النموذج التربوي في البناء الفوقي، وبالتالي أصبح لدينا سلوكيات نستنكرها كالخطف والسرقة وهدم مؤسسات الدولة، وبالتالي علينا أن نعيد التربية السياسة والأخلاقية عبر استنفار كافة الطاقات الفكرية والثقافية والقيم الأخلاقية ليقف مجتمعنا متماسكا قادراً على مواجهة التحديات.
السويداء – رفعت الديك