العيد بين ألواح الوعي وفينيق الشهداء
غالية خوجة
تبتهج ألوان الطفولة في العيد مهما كانت الظروف صعبة، وتشرق القلوب بالفرح، وترتفع الأيادي مبتهلة مع الأرواح والشمس والقمر، وتورق الكلمات بأزهار المحبة ووشوشات المطر، وتستعيد الذاكرة لحظتها المتواصلة من الكرامة والشموخ المعطّر بأرواح الشهداء على امتداد تأريخ سوريتنا الحبيبة، وتتخذ النبضات وقفة إجلال للأبطال المناهضين لكافة أشكال الاحتلال، وتزدحم بأسماء الجنود المعلومين والمجهولين، وتزدهر مشانق شهداء أيار بشقائق النعمان، وتفوح المناسك بعطرها بين يوسف العظمة وشهداء قلعة حلب ومشفى الكندي وسورية وفلسطين والوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
أرواح الشهداء خضراء مضيئة تزور أرضنا لتطمئنّ على عهدنا في تحرير آخر ذرة من تراب هذا الوطن المقدس، لأن الاحتلال إلى زوال مهما طال الزمن به، ولأن الحق باقٍ مثل الشمس في مجرة التبانة.
الأطفال يلهون بالألعاب، ويحلمون، ويدرسون، ويكبرون، ويعملون، ليكونوا المستقبل الذي يزغرد لوحدة سورية وعودة جولانها ولواء إسكندرونها أيضاً، وعودة القدس إلى الشعب العربي الفلسطيني، لترتاح أبجدية الشهداء وتشتعل الشموع بأعيادنا المزركشة بوحدة مجتمعنا العربي السوري ولوحاته الحياتية المتنوعة.
العيد عيدان، وننتظر الثالث قريباً، لأن السوريين منبع المحبة والسلام والكرامة، منبع الأبجدية والمدنية والحضارة والشهداء، وما طائر الفينيق إلاّ رمز لتضحيات السوريين واستعادتهم للحياة وصناعتهم لها، وهذا الرمز يشتمل مختلف التحولات ومنها الحياة الفكرية والثقافية والفنية والعلمية التي ترفض الاحتلال العقلي والباطني من قِبل الآخرين، مهما تنوعت وسائلهم الواقعية والافتراضية، ومهما اختلفت وسائطهم وأساليبهم ودبلوماسيتهم المكشوفة من خلال دسّ السُمّ في الدسم.
ولذلك، لا يكتمل الانتصار إلاّ بالوعي المثقف بالقيم، وهذا ما تعلّمناه من أجدادنا وآبائنا وشهدائنا وجرحى الوطن والجنود الحياتيين المجهولين في كافة مجالات الحياة، والذين لم يكن وعيهم الوطني مرتبطاً بشهادة تعليمية بقدر ما كان مرتبطاً بالقيم والانتماء والهوية والدفاع عن الوطن وكرامته ووجوده، والذين رضعوا هذه الشهامة وهذا الشموخ وهذه الكرامة، فجرت معهم مجرى الدم، وجرت في حياتهم ومماتهم مجرى الضوء.
الإنسان بلا وطن كغيمة بلا سماء، كشجرة بلا جذور ولا انتماء، كريشة في الهواء، لأن الإنسان والوطن كليّة واحدة أجزاؤها تستغرق أجزاءها بتعاشقية الزجاج الملون، فتشفّ بالأشعة في كافة الجهات، وتشفّ بحركتها المائية المشتعلة بتدفقات يتوضأ فيها اللهب فيتطهر، وينمو بنياناً مرصوصاً بين العقل والأوردة والصبغيات الموروثة والعمل المزدهر بالعيد، ليبتسم الأطفال والشباب والصبايا والعجائز والمرضى والمحتاجون، لعل ذاكرتهم تجرب نسيان الحرب التدميرية وآثار الزلزال، وتضيء بأحلامهم البسيطة الصغيرة، المتفائلة مع أرجوحة تلهو مع الضحكات، ومعدةٍ أسكتت جوعها بطعام متواضع مبارَك من الله، وظهرٍ أحنته السنون كما أحناهُ فراق الأهل لكنه ظل شامخاً لأنه ينحني لأرض الوطن، فيرى الأعشاب تخرج من بين الخراب، والوردة تشقّ دروبها من بين الحجارة والجدران، والقلوب المنكسرة تشفّ أكثر من مياه الينابيع الصافية، بينما يتحول النبض إلى مطر وصبّار وزيتون وسنديان وملاحم محبة وأساطير جيش وشعب يظل “مرفوع الرأس” كما قال قائده الأسد، فلا يمكن أن يُهان، “فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان” أيها الإنس والجان، “أيها الثقلان”، وسيظل “يُعرف المجرمون بسيماهم” وآثار أعمالهم على ملامح الإنسان والأوطان.
دمتم العيد وفرحته وشموسه ودام حبّ الأوطان من الإيمان.