أوروبا بين مطرقة أمريكا وسندان شعوبها
ريا خوري
لم يمض على الحرب الروسية الأوكرانية سوى عام وبضعة أشهر حتى أدركت الدول الأوروبية أنها استخدمت كوقود لتلك الحرب، فقد كانت أوروبا من أكثر المتضررين من تلك الحرب، حيث تأثرت اقتصادياتها بشكل سلبي ملحوظ بفعل العقوبات الجائرة التي فرضتها على روسيا، حيث ارتفعت أسعار الطاقة والسلع والبضائع والمواد الغذائية، جراء الخلل الكبير الحاصل بين مستويات الطلب والعرض في هذا المجال، وتصاعد نسبة نزوح الأوكرانيين نحو البلدان الأوروبية بشكلٍ كبير والذي شكّل عائقاً كبيراً في دوائر الدول التي استقبلت أعداداً كبيرة منهم وصلت إلى مئات الألوف من النازحين.
كما أن هذه الحرب دفعت عدداً كبيراً من دول الاتحاد الأوروبي إلى زيادة ميزانية النفقات العسكرية من أجل إعادة بناء جيوشها، وتعزيز ترسانتها العسكرية، وتطوير أسلحتها لتتناسب طرداً مع أحدث الأسلحة الروسية المتطورة جداً. كما أسهمت الحرب أيضاً في عرقلة الجهود المبذولة لأجل التعافي من التبعات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية التي خلفتها جائحة كوفيد ١٩ (كورونا)، وهو ما عمّق الأوضاع أكثر سوءاً، وأسهم في عرقلة النمو في عدد من الدول الأوروبية. لقد أشارت العديد من الإحصاءات إلى أنّ الدول الأوروبية أنفقت ما يزيد على ثمانمائة مليار يورو في سياق دعم المواطنين لتجاوز كلفة المعيشة الصعبة وغلاء الأسعار ومعدلات التضخم النقدي المرتفعة.
أمام هذه التطورات، تجد الدول الأوروبية نفسها بين مطرقة ضغط وتوجهات الإدارة الأمريكية الرامية إلى تشديد العقوبات السياسية والاقتصادية والمالية والعسكرية على روسيا، وبين سندان النتائج السلبية العكسية لهذه التدابير وتلك الإجراءات التي جعلت صانعي القرار وجهاً لوجه أمام احتجاجات المواطنين ورفضهم لتلك المواقف التي تقفها بلادهم إزاء روسيا والحرب عموماً، والتي أصبحت تهدد السلم الاجتماعي في عدد من دول القارة الأوروبية.
في هذا الإطار، تطرح العديد من التساؤلات حول ما إذا كانت الدول الأوروبية قادرة على مواجهة تداعيات الحرب واستحقاقاتها في حال استمرارها مدةً طويلة كما تريدها الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة أن عدداً منها شهد تصاعداً في الاحتجاجات، كرد فعل على غلاء الأسعار والسلع، وتزايد نسبة البطالة، وتراجع القدرة الشرائية للأفراد، حيث تشير التوقعات الاقتصادية إلى أن طول أمد هذه الحرب واتساعها سيكلّف الاقتصاد الأوروبي خسائر فادحة غير مسبوقة، سواء تعلق الأمر منها بتبعات العقوبات الجائرة المفروضة على روسيا، أو الدعم الموجه لأوكرانيا وجيشها المهلهل، أو فيما يتعلق بإعادة كلفة إعمار ما ستخلفه الحرب المدمّرة في هذا البلد في حال توقفت العمليات العسكرية وانتهت الحرب.
وأمام هذه الأوضاع المعقدة الضاغطة، بدأ عدد كبير من القادة والزعماء الأوروبيين يراهنون على جمهورية الصين الشعبية للقيام بأدوار على مستويين: الأول، يتركز في إرساء مبادرات تهدئة تسمح بوقف نزيف الحرب ووقف العمليات العسكرية، والثاني، يتعلق بعقد شراكات دائمة تدعم إنعاش الاقتصاد الأوروبي، الذي تضرر بشكل كبير وغير مسبوق خلال السنوات الأخيرة بفعل انعكاسات جائحة كوفيد-١٩، وآثار هذه الحرب المدمرة.
إذا كانت الدول الأوروبية ترى في انفتاحها على الصين مدخلاً مهماً لتخفيف وطأة الأزمات الاقتصادية، والمالية، والاجتماعية المتزايدة، فإنّ هناك أسئلة ملحّة ترافق هذه التوجهات وتلك السياسات حول ما إذا كان الأمر يمثل إقراراً صريحاً برغبة الدول الأوروبية في إرساء نظام دولي جديد متعدّد الأقطاب، أم مجرّد مناورة لوقف نزيف الحرب واستحقاقاتها وتداعياتها التي كلفت الدول الأوروبية الكثير من الطاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
في حقيقة الأمر، هناك علاقات إستراتيجية تربط الدول الأوروبية بالولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من الخلافات الأوروبية مع الصين بشأن عدد من القضايا الإستراتيجية، فإن التطورات الدولية الأخيرة المتلاحقة، وما تحيل إليه من تحالفات وتهديدات وتوازنات دولية جديدة، فَرض اعتماد منهج سياسي جديد وسلوكيات جديدة على قدر من الواقعية السياسية التي تستحضر ضمن مرتكزاتها العقلانية والمصلحة العامة.
من الواضح أن الصين تربطها علاقات اقتصادية قوية مع عدد كبير من الدول الأوروبية كألمانيا وفرنسا، وهو ما يحيل إلى أن التوجه الأوروبي الأخير يصب باتجاه السعي الحثيث إلى التخلص من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا الإطار، يمكن قراءة تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخيراً، عندما أشار إلى دعمه الصريح والواضح لسياسة الصين الواحدة، ودعا إلى بلورة موقف مستقل عن الولايات المتحدة الأمريكية في التعاطي مع النزاع القائم بين الصين وشبه جزيرة تايوان.
بشكل عام، تظهر الكثير من المؤشرات والوقائع أن التوجه السياسي والاقتصادي الأوروبي نحو الصين لا يتعلق بخيار آني أو مرحلي يتحكم فيه هاجس المراهنة على دور الصين في إقناع القيادة الروسية بوقف عملياتها العسكرية في أوكرانيا فقط، بل بخيار استراتيجي واحد يخدم المصلحة المشتركة أملته القناعة التامة ببداية تشكل نظام دولي تعددي جديد ستحتل فيه الصين مكانة عالمية وازنة.