العقوبات وأوكرانيا تؤسسان لنظام عالمي جديد
هيفاء علي
عندما أطلقت روسيا عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، في شباط 2022، لم يتوقع أحد أنها ستضرم حريقا عالميا سيدمر النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي يهيمن على العالم منذ نهاية الحرب العالية الثانية. ولم يتخيل المحللون أن أسس السياسة الاقتصادية والخارجية الأمريكية ستنهار بهذه السرعة وبطريقة شاملة، حيث شهد العالم كيف غدت أربع دول من بين الدول الست الأولى من حيث غناها بالثروات الطبيعية تتحد اليوم ضد الولايات المتحدة على خلفية الصراع في أوكرانيا.
الحديث هنا سيكون عن الصين التي راقبت بعناية جهود الغرب لتدمير الاقتصاد الروسي من خلال العقوبات، ومحو الثقافة والتأثير الروسيين على المسرح العالمي، ومحاولة تغيير نظام الحكم في روسيا، وتدرك أنها ستكون التالية في الاستهداف، فقد وصل الخطاب المناهض للصين في الولايات المتحدة إلى مستويات غير مسبوقة من النقد اللاذع، مع تصوير الصين بانتظام على أنها عدو للولايات المتحدة من قبل السياسيين البارزين من كلا الحزبين. تحطمت آمال الصين في رؤية الولايات المتحدة تلتزم بسياسة صين واحدة التي فاوض من أجلها ريتشارد نيكسون في عام 1972، عندما خرجت واشنطن لتؤكد أن تايوان دولة مستقلة.
في عام 2022، قادت نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب آنذاك، وفداً إلى تايوان على الرغم من اعتراضات قوية من الصين. وبعد عام، رحب رئيس مجلس النواب الحالي، كيفن مكارثي، بالرئيس الحالي لتايوان في الولايات المتحدة، وسبق هذه الإهانة قيام الولايات المتحدة بإسقاط منطاد صيني زعمت واشنطن أنه بالون تجسس.. كل هذه الأحداث كان لها تأثير تراكمي، وأدت إلى تغيير جذري في العلاقات الأمريكية الصينية، وتغيير الوضع الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري الراهن.
على الصعيد الاقتصادي، تسيطر الصين على 98٪ من إنتاج العالم من المعادن النادرة، وتخطط لحظر تصديرها إلى الولايات المتحدة لأسباب تتعلق بالأمن القومي، وفقاً لمقال نشرته صحيفة “يوميوري شيمبون” اليابانية. ذلك أن هذه المعادن النادرة ضرورية لإنتاج المركبات الكهربائية، والعديد من الأسلحة الأمريكية المتطورة والطائرات العسكرية.
وعلى الصعيد العسكري، قررت الصين استعراض قوتها البحرية من خلال إحاطة تايوان بأسطول من 9 مدمرات وحاملة طائرات، ومحاكاة الضربات الصاروخية على تايوان. كما تتخذ الصين خطوات تاريخية ومهمة على الساحة الدبلوماسية، ففي أوائل آذار الماضي، توسطت بكين بالتقارب بين إيران والسعودية،حيث التقى الإيرانيون والسعوديون في بكين يوم 6 نيسان الجاري لإبرام الصفقة. وقد أسفر هذا الاتفاق عن نتائج سريعة مع وصول مبعوثين سعوديين وعمانيين إلى صنعاء لبدء محادثات سلام مع قادة اللجان الشعبية، وإنهاء هذه الحرب، الأمر الذي يثير استياء واشنطن التي رأت في هذا الصراع وسيلة لإضعاف إيران.
كما دقت علاقة الصين الجديدة الدافئة مع روسيا أجراس الخطر بين الحلفاء الغربيين، وها هو الفرنسي ماكرون، بالإضافة إلى إخفاقاته الفادحة كقائد، فهو أيضاً متملق من الطراز العالمي، وقد تجلت عدم كفاءة ماكرون كدبلوماسي في قراره الأحمق بدعوة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى اجتماعاته مع الرئيس الصيني أثناء زيارته الاخيرة إلى الصين، الأمر الذي أزعج الصينيين ودفعهم إلى تجاهلها ورفضوا منحها أي بروتوكول دبلوماسي.
وكان سياسي فرنسي قد علق على هذا الأمر بالإشارة إلى أن المسكينة أورسولا أُجبرت على الصعود على متن رحلة تجارية، والخضوع لفحوصات الركاب المعتادة. أما ماكرون، فبعد فشله في إقناع شي جين بينغ بالنأي بنفسه عن روسيا، ألقى بعض القنابل الدبلوماسية في مقابلة مع “بوليتيكو” أثناء رحلة العودة إلى باريس التي مزقتها أعمال الشغب، حيث أشار إلى أنه يجب على أوروبا أن تقلل من اعتمادها على الولايات المتحدة، وأن تتجنب الإنجرار إلى مواجهة بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان، و أصّر ماكرون على نظريته المفضلة عن “الاستقلال الاستراتيجي” لأوروبا، التي من المفترض أن تقودها فرنسا، من أجل أن تصبح “قوة عظمى ثالثة”، مضيفاً أن “الخطر الكبير” الذي يواجه أوروبا هو أنها عالقة في أزمات لا شأن لها بها، والتي تمنعها من بناء استقلالها الاستراتيجي، على حد تعبيره.
وبينما تشن الولايات المتحدة عمليات عسكرية ضد الحكومة السورية، يستخدم الصينيون المساعدات الإنسانية لإرسال رسالة واضحة بأن الصين صديقة وليست عدواً. ثم هناك الأخبار الاقتصادية السيئة التي ستزيد من إنزعاج الأمريكان، حيث يتعاون الصينيون والروس على إنشاء عملة دولية جديدة، وهناك المزيد من الدول التي تستخدم العملة الصينية “اليوان” لإبرام المعاملات التجارية التي كانت تتم سابقاً بالدولار. وقبل أسبوعين، أعلنت الصين والبرازيل عن اتفاق للتجارة بعملتيهما، والتخلي عن الدولار الأمريكي كوسيط، وهذا ليس حدثاً منعزلاً، فقد تسارع التحول إلى اليوان العام الماضي، وزادت التحويلات التي تتم بالعملة الوطنية الصينية باليوان للمدفوعات الدولية في عام 2022 مقارنة بالعام السابق. وقد بلغ حجم التحويلات الدولية باليوان 96.7 تريليون يوان (حوالي 14.14 تريليون دولار أمريكي)، بزيادة 21.48 في المائة على أساس سنوي، وفقاً لبيانات بنك الشعب الصيني. وأخيراً، الأمر المهم هو أن الصين وروسيا تكشفان أن الولايات المتحدة هي المحرض الرئيسي على الحروب والفوضى الدولية.
ما هو رد الولايات المتحدة؟ إنها تستمر في التهديد، كما هو معتاد، بفرض عقوبات إضافية على الدول التي ترفض الامتثال لمطالبها.