العقيدة الروسية في مواجهة الخداع الغربي
ريا خوري
لم تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود طويلة عن حبك المؤامرات ضد روسيا، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، فقد سعت وما زالت لاستدراج الدول التي تعارض مصالحها لإيقاعها في أزمات اقتصادية وسياسية أو أمنية خطرة، فكانت تدبّر المؤامرات، وتخلق النزاعات والصراعات بين الدول والجماعات، وتصب الزيت على نيران الحروب المحلية لتزداد اشتعالاً وتوسعاً، وكل ذلك من أجل ترتيب الساحة العالمية بما يتوافق ومصالحها.
في كل أزمة تختلقها الولايات المتحدة، أو صراع مسلّح تشعل فتيله، كانت الأيام تفضح دورها القذر، كما جرى في معظم الحروب التي شهدها العالم، وشهد عنجهية الجيش والاستخبارات الأمريكية، ولا سيما ما جرى في حربي أفغانستان والعراق، حيث انكشف بوضوح الكذب والنفاق والخداع الأمريكي أمام العالم، بخاصة فيما يتعلق بالحرب الدامية على العراق التي دمرت البشر والشجر والحجر، التي بررتها الولايات المتحدة بمزاعم حول امتلاك العراق أسلحة دمار شامل لم تكن موجودة أصلاً سوى في العقل الأمريكي المخادع الذي يبحث عن ذرائع واهية لتبرير سياسات الهيمنة والسطوة الأمريكية على العالم. وما يجري على الساحة الأوكرانية ليس سوى نتيجة منطقية لسياسة الخداع والمراوغة الأمريكية بشكل خاص، والغربية الأوروبية بشكل عام، التي مورست حيال روسيا خلال الثلاثين سنة الماضية، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، فبالرغم من تعهد الولايات المتحدة الأمريكية صراحة لجمهورية روسيا بعدم توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو ) شرقاً، مارست عكس ما التزمت به، على الرغم من علمها بخطورة وحساسية هذا الأمر بالنسبة لجمهورية روسيا، وكأن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى عمداً إلى استفزاز روسيا، وجرّها إلى مستنقعات وحروب جانبية بهدف استنزافها، وإضعاف نفوذها الدولي وإعاقة محاولاتها استعادة عافيتها والقيام بدورها الدولي كلاعب رئيسي على الساحة الدولية .
ومما لا شك فيه أنّ كل الأزمات التي أحاطت بجمهورية روسيا كانت من صنع الغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من انفتاح روسيا وطرحها التعاون مع الغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية خاصة. لكن الأحداث المتسارعة وما يجري حالياً في الساحة الأوكرانية الساخنة، أثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأنّ سياسة المراوغة والخداع التي يعتمدها الغرب الأوروبي – الأمريكي حيال روسيا يهدف إبقاء الهيمنة الغربية على العالم، هو ما دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى التوقيع على مرسوم جديد يتضمن نسخة محدثة من العقيدة السياسة الخارجية لجمهورية روسيا تؤكّد على أنّ الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوروبي هما مصدر “تهديدات وجودية” لروسيا، مؤكداً في الوقت ذاته أن روسيا الاتحادية تسعى بكل ما تملك من جهود لإرساء نظام عالمي جديدة يكون لها الدور القوي والفاعل فيه.
لقد أكّدت القيادة الروسية أن العقيدة الجديدة ستقوم على استخدام روسيا للقوة ضد كل من يهدّد أمنها القومي والاستراتيجي. نعم لقد كان لاندلاع الحرب الروسية -الأوكرانية الساخنة، واتساع مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية بشكلٍ خاص، ودول ( الناتو) بشكلٍ عام فيها من خلال الدعم العسكري والمالي اللا محدود وغير المسبوق لأوكرانيا، الدافع القوي لقيام روسيا بتعديل وثائق التخطيط الاستراتيجي الرئيسية التي تشكل خارطة الطريق لوزارة الخارجية الروسية، كي تتماشى وتتوافق مع الواقع الحالي ومستجداته واستحقاقاته، وإيلاء الاهتمام الكبير لتوسيع العلاقات مع الشركاء، وتهيئة الظروف الملائمة للدول المعادية للتخلي عن سياساتها ونهجها العدواني والاستفزازي، حسب تعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أثناء التوقيع على الخطة الاستراتيجية الجديدة يوم ٣١ آذار الماضي .
كانت الوثيقة الاستراتيجية منهجاً للسياسة الخارجية الروسية الجديدة والتي تقع في إثنين وأربعين صفحة موزعة على عدّة فصول تحدّد التغييرات والمستجدات التي طرأت على نظرة جمهورية روسيا للعالم، لا سيما علاقة المواجهة المتزايدة مع الغرب الأوروبي – الأمريكي .
لعلّ المفارقة اللافتة للنظر أن تأتي هذه التطورات متزامنةً مع تصريحات خطيرة أدلى بها سكوت ريتر، ضابط المخابرات الأمريكي المتقاعد، والتي قال فيها: “لقد كذّبنا على الروس وخدعناهم”.
خلاصة القول، إن العقيدة السياسية الخارجية الجديدة لجمهورية روسيا التي أعلنها الرئيس فلاديمير بوتين تثبت أن روسيا باتت مدركة تماماً وربما أكثر من أي وقت مضى بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية بشكلٍ خاص والغرب الأوروبي بشكلٍ عام لا يسعيان لعالم متوازن يسوده الأمن والأمان والاستقرار والسلام العالمي، وإنما يسعيان للهيمنة والسيطرة على العالم بشتى الطرق والأساليب وعلى رأسها العمل العسكري والحروب المدمرة، وهو استنتاج بات يدركه عدد كبير من دول العالم، بخاصة تلك التي اكتوت بنار السياسات الغربية المتوحشة.