الليلة عيد
فيصل خرتش
اقتربت العشرة الأواخر من شهر الصوم، والناس بدأت تستعد لأيام العيد، فالمتدينون راحوا يقضون أيامهم وبعضا من لياليهم في المساجد، وغيرهم راح يعمل بنشاط كي يؤمن رزقه ورزق عياله لأيام العيد، وخلال الأيام القادمة كان والدي يأخذنا إلى سوق المدينة، مع زوجاته الإثنتين، لنشتري الثياب والأحذية وغيرها من هناك، فتجدنا متجمعين حول بعضنا، وهو، أي والدي، كان يأخذ قسما، ويعود بقسم، يشتري لهم، وتكون أمَي معه، ونحن اشترى لنا من عند محلات فريجض المشهورة، لكل واحد بذلة على قياسه أو أكبر قليلا، لأنه سيرفعها إلى عيد الأضحى، وربما إلى الأعياد القادمة.
اشترينا ثياب العيد، وعدنا إلى البيت، كل واحد يحمل أغراضه، خبأناها عند أمنا ليوم العيد، واعتبارا من الصباح أخذنا والدي لشراء اللحم والبقول والخضروات وعدة الكعك والمعمول والكرابيج، وعند المساء بدأنا بصنعها، فتجد الأولاد على طريق فرن بوغوص يحملون الصواني، يذهبون بها مليئة ويعودون بها فارغة، والنساء في البيت يصنَعنها.
سمعت الصفرات الثلاث.. إنهم أصدقائي قد جاؤوا، فقلت لأمي: إنني أريد الذهاب إلى حمام السوق، فأخذت الأجرة وزيادة عليها، وخرجت فوجدت أربعة من أصدقائي، كنت خامسهم، واندفعنا في الليل البهيم باتجاه حمام السوق، وما إن وصلناها حتى رأيناها تعج بالأنوار وصوت أم كلثوم يصدح بالليلة: “عيد ع الدنيا سعيد”.. كان الناس زحاما، وصوت أم كلثوم ينطلق من الحوانيت.. وصلنا إلى الحمام نشيطين وصعدنا إلى المصطبة، رمينا ملابسنا والتففنا بالمآزر، ونزلنا من البراني إلى الجواني، اغتسلنا وتفركنا وتليفنا، صار الواحد منَا مثل نبعة الريحان، ثمَ خرجنا إلى المصطبة مرَة أخرى، شربنا الشاي، وتمتعنا بمنظر البحرة وهي تنوفر ماءها، ولبسنا ثيابنا وخرجنا إلى بيوتنا. لاحظت أنَ والدي قد جاء جالبا معه الغريبة وضيافة العيد، ونمت بعد ذلك وأنا أحلم بأيام العيد. وعندما بدأ الصباح ينشر نوره صلَيت الصبح وصلاة العيد واندفعت إلى المقابر. كان عليَ أن أدبَر خرجية العيد، فأخذت ربع ياسين واندفعت إلى المقبرة القريبة من بيتنا، وما إن دخلتها حتى بدأت أصرخ: “مقري مقري على روح أمواتو قبل ما تموت حماتو”، وصرت أجلس على قبر وأنهض من قبر، أقرأ سورة الرحمن بعشرة قروش، وسورة ياسين بربع ليرة، وهكذا مضى النهار وامتلأ جيبي بالنقود.
عدت إلى البيت فأفطرنا من المامونية والشعيبيات بالجبنة، وانطلقت إلى غرفتنا.. كانت ثيابي مطوية ومرتبة بشكل جيد؛ ارتديتها ونظرت إلى نفسي في المرآة الكبيرة، كنت مثل الزهور في فصل الربيع، قبلت يد أبي وقبَلت أمي من رأسها، ومضيت أعايد كل الموجودين في الدار، بعد ذلك جاء الطبال الذي كان يمر على باب بيتنا ويقف عنده ويضرب بطبلته وينشد شيئا من المدائح النبوية، فأعطاه أبي شيئا من النقود، كذلك أعطى حارس الحارة نقوداَ أيضا، لأنه كان يحرسنا، ثمَ انطلقنا إلى المعايدة.. نحن كانت هذه عادتنا، ندور في اليوم الأول على الذين سوف نعايدهم ونجلس في اليومين التاليين، لم أكن أجلس في البيت، فهذه عادة والدي، المهم لقد أكلنا مربى الكباد والكعك والمعمول والكرابيج، ثمَ احتسى أبي القهوة المرة.. لقد أكلنا حتى أتخمنا، وقد شاهدنا رجلا في الشارع على رأسه قلنسوة طويلة في أعلاها ذنب ثعلب وفي يده دف يضرب فيه وأمامه بغل مدرَع بالخرز والودع معصب رأسه بالمناديل الملونة، فيدور على هذه الهيئة بالأزقة والشوارع، ويقف على الحوانيت التي تفتح أبوابها، ويمدح صاحب الحانوت ويرقص فيعطيه شيئا من النقود وينصرف، وسألت والدي عنه فقال: هذا جحش العيد يبقى في الشوارع والأزقة إلى ما بعد العيد.
ثمَ رأيت صبيانا قد صبغوا أجسادهم باللون الأسود ولبسوا ثيابا قصيرة ووضعوا على رؤوسهم قلانس طويلة وفي أيديهم دفوف يضربون بها ويدورون بها على المنازل المعتبرة ويمدحون ذويها ويرقصون لهم ويتخلعون فيعطونهم شيئا من النقود وينصرفون، وحين سألت والدي عنهم، أجاب: هؤلاء “جماعة بيضا بيضا”، لم أرهم منذ زمن، لعل هؤلاء هم آخرهم.
ثم ودعنا والدي وذهبنا إلى سوق المراجيح، فشاهدنا الكثير منها، اخترنا إحداها، وجلسنا فيها، وعندما امتلأت صار صاحبها يمرجحنا، وعندما انتهى وقتنا، أوقفها صاحبها، وبعصاه أنزلنا ثمَ توجهنا إلى القلابة، فأخذنا بها دورا.. كنا نصعد بها نحو الأعلى ونحن جالسون في مقاعدنا، ثم نهبط إلى الأسفل، وبعد ذلك ركبنا في العربة التي يجرها حصان، وعندما امتلأت ساق بنا صاحبها إلى المطار، وكنا نصيح: “يا حج محمد يويو، اعطيني حصانك يويو”، ثم عدنا فرحين مسرورين.
كاد يمضي اليوم الأول، اقترح أحدهم علينا أن نذهب إلى السينما، أعجبتني الفكرة، وتوجهنا إلى “شارع السينمايات”، وأخذنا نتفرج على الأفلام، أعجبنا فيلم طرزان، من بطولة جوني ويسملر، فدخلنا وشاهدنا كيف يصادق البطل الحيوانات، لقد اتخذ من الغوريلا والفيل أصدقاء له، أعجبتني صرخته، عندما يضع يديه الاثنتين على فمه ويصيح، فتأتي حيوانات الغابة لنجدته، وأعجبتني الربطة التي يلفها على جنبه، يفردها ثمَ يلقي بها على الشجر فتنعقد ويقطع بها المسافات.
اليوم الذي يليه، جلست في المنزل استقبل مع والدي وأخواني الذين يعايدوننا، كنت أقدم لهم القهوة المرة كل فترة، وأعود وأضعها في المنقل، وعندما صار بعد الظهر، سمعت صيحة طرزان، فتلجلجت: أصدقائي قد جاؤوا.. خرجت إليهم، كانوا يريدون الذهاب إلى السينما، استأذنت والدي كي أذهب معهم فأذن لي، وتوجهنا إلى فيلم “الخطايا”، بطولة عبد الحليم حافظ، انفعلت معه، وكدت أن أبكي، عندما عرفت أنَ عبد الحليم ليس الابن الحقيقي لعماد حمدي.
اليوم الثالث، أذن لي والدي فذهبت إلى السينما، وحضرت فيلما عن رعاة البقر، وهو من بطولة جوليانو جيما، وخرجت من السينما، اشتريت مسدسا وصرت أضرب به أولاد الحارة.
هكذا كان العيد في تلك الأيام، أما اليوم فالحرب التي قسَمت بلادي وشتَتت أولادي وأولاد الآخرين ودمرت المباني، يضاف إليها فيروس كورونا الذي قضى على الناس، ثمَ جاء الزلزال ليدمَر ما بقي عندهم من قوَة يتحملون بها هذه المآسي، والغلاء الذي يقهر العباد، ليس لنا إلا أن أقول: وطني ليس حقيبة وأنا لست مهاجر.