سلمى الخضراء الجيوسي والعودة إلى منبع الحلم
حلب – غالية خوجة
هل كانت سلمى الخضراء الجيوسي تعلم أن النبع الحالم سيرسل كلماته الأخيرة إليها لترحل عن عالمنا الأرضي في 20 نيسان 2023 ليكون عيدها في السماء؟
ظلت الجيوسي تحلم بالعودة إلى فلسطين التي ولدت فيها، فاحتضنتها صفد في الربع الأول من القرن التاسع عشر، لتكون الشاعرة الناقدة والمترجمة المولودة لأم لبنانية روائية (جمال سليم)، وأب فلسطيني محام وسياسي (صبحي الخضراء الجيوسي).
وريثة الحضارة
قالت في إحدى مقالاتها في مجلة الآداب: “أعتبر نفسي وريثة الحضارة الإنسانية إن تمكنت من تمثيلها”، وها هي تأخذنا معها في رحلة سريعة إلى طفولتها التي أمضتها بين عكا والقدس الغربية، ولنراها تتابع دراستها الثانوية في القدس، ولتدرس الأدبين العربي والإنكليزي في الجامعة الأمريكية ـ بيروت، ثم لتعود إلى القدس لتعمل في كلية دار المعلمات، وتسافر وتنال الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة لندن، ثم لتصبح مدرّسة في العديد من الجامعات العربية، والجامعات الأمريكية، ولتترك لنا مشروعها المميز “بروتا” عام 1980 لترجمة الأدب العربي إلى العالم.
الحلم في ديوان
ما زال الحلم يشفّ بصفاء قلبها وهو يكتب ديوانها الأول “العودة من النبع الحالم” (1960)، لتؤكد رسالتها وقضيتها قائلة عن هذا القلب: “منتظراً رجوعنا المحتوم كي يدق في مفاصل الجناح مسماره السحيق، ويلفّ ساعديه على بقايا عمرنا المباح”.
وعن هذه المشاعر الصاخبة بأحداث الإنسان الفلسطيني وواقعه وجذوره وذاكرته وجوعه وتهجيره وشتاته وآلامه المتواصلة، كتبت عودتها من وإلى النبع الحالم، الذي كتب عن شعريته الحديثة العديد من الشعراء والكتّاب والنقاد، ومنهم خالدة سعيد التي رأت أن لهذه الشاعرة الجيوسي “حساسية خاصة بالأحياء غير المرئيين، بهذه الأشياء الصغيرة المهملة التي عاشت دائماً على هامش الشعر، هذه التعابير الساذجة البدائية التي تجمل مشاعر الناس البسطاء ومواقفهم، هذه الحشود التي تعيش بعيداً عن الكتب على ألسنة الناس، وتختبئ في خلايا ذاكرتنا قبلنا، نتعرف إلى المتنبي وبودلير، هذه الحشود التي غمرت طفولتنا، تستيقظ في قصيدة، فتوقظ فينا الطفولة والبساطة بكل تجاوبها اللاهف”، ملفتة إلى توظيفها الملفت للثقافة والقضية والذاكرة والتراث من الأغاني والحكايات والرموز الشعبية والفلكلور الفلسطيني والعربي والعالمي.
أمّا أهم ما حققته الجيوسي في قصائدها تبعاً لخالدة سعيد في مقالها النقدي المنشور في العدد 13 من مجلة الآداب عام 1960، فهو عدة عناصر، أميزها: وحدة القصيدة، التعبير غير المباشر بالصور المركبة، التصوير، الجو النفسي الناتج عن تداعيات الصور وتشابكها وتقابلها، الحركة الداخلية للقصيدة بأصوات متعددة، الاستفادة من كل من صيغة الاستفهام، ومن الشحنة النفسية للمفردات، الحركة النفسية للقصيدة بين هدوء وتوتر، استخدام بعض الرموز بمداليلها الشعبية.
القصيدة كون شمولي
ولأن الجيوسي موقنة بتأثيرات الكلمة عبْر الزمكانية، فإن اختياراتها لترجماتها تلتقي مع رؤاها، لذلك، من قرأ على سبيل المثال كتاب “الشعر والتجربة” للشاعر الناقد آرشيبالد ماكليش، يدرك أن ترجمة الجيوسي الصادرة عام 1962 تضيف هذا البعد، خصوصاً، وأن الكتاب بفصوله يحاور الشعر ومعاني الكلمة والإيحاءات وتشابكاتها وكيفية اختزالها لتكون القصيدة متجوهرة مع الشاعر والقارئ والكون والكينونة بما فيها الجانب غير المعلوم من الإنسان والكائنات والكلمات والوجود بكليته الموجودة وغير الموجودة.
رحلة الإنجازات
أنتجت الجيوسي العديد من الموسوعات والكتب في الحضارة العربية الإسلامية، والروايات والمسرحيات والسير الشعبية، كما كان لها رؤى وآراء في الشعر العربي وأساليب تجديده وحداثته، سواء في كتاباتها أو ترجماتها، وتساجلت مع الشعر والشعراء والنقاد العرب والأجانب في كتبها وفي الحياة.
ومن أهم الموسوعات: الشعر العربي الحديث، منشورات دار جامعة كولومبيا، نيويورك 1987، أدب الجزيرة العربية، نشر كيغان بول عام 1988، ثم جامعة تكساس 1990، وترجمت فيها لأكثر من ستين شاعراً من الجزيرة وأربعين قاصاً، الأدب الفلسطيني الحديث، منشورات جامعة كولومبيا، نيويورك 1994، المسرح العربي الحديث، (بالاشتراك مع روجر آلن)، دار جامعة إنديانا 1995، القصة العربية الحديثة، 104 قاصاً، دراسة مطولة عن الشعر الأموي في المجلد الأول من “موسوعة كمبريدج للأدب العربي”.
كما تمتعت برهافة وعمق وإيقاعات ثقافية في ترجماتها من العربية إلى الإنكليزية، وبالعكس، ومن ترجماتها نذكر: الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي ـ محمد عابد الجابري، الصبارـ سحر خليفة، الحرب في بر مصرـ يوسف القعيد، بقايا صورـ حنا مينة، امرأة الفصول الخمسةـ ليلى الأطرش، نزيف الحجرـ إبراهيم الكوني، إضافة لدواوين العديد من الشعراء، منهم: أبو القاسم الشابي، فدوى طوقان، محمد الماغوط، نزار قباني.
لقد رفدت المشهد الثقافي العربي بالكثير من الكتب الهامة، منها: إنجازات الشعر الأمريكي في نصف قرن ـ لويز بوغان، إنسانية الإنسان ـ رالف بارتون باري، والجزأين الأولين من رباعيّة الإسكندرية للورنس داريل “جوستين، بالتازار”.
وهكذا، ما بين فلسطين وأمريكا والأردن التي عاشت فيه منذ عام 1948 إلى وفاتها، أنجزت تأريخاً من الإبداع في النقد والشعر والترجمة، وحازت العديد من الأوسمة والتكريمات والجوائز، منها جائزة شخصية العام الثقافية للدورة 14 من “جائزة الشيخ زايد للكتاب ـ 2020” وأسعدني، حينها أنني سمعت صوتها وهي في الأردن مع ابنتها لتعبّر لي عن سعادتها بالجائزة ونتناقش في العديد من الرؤى، وجائزة الإنجاز الثقافي والعلمي ـ مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية 2007، وجائزة سلطان بن علي العويس 2006، وسام القدس للإنجاز الأدبي، كما حصلت على جائزة محمود درويش للإبداع 2023، ومنحها الرئيس الفلسطيني محمود عباس عام 2019 وسام الثقافة والعلوم والفنون فئة الابداع.