“الأيام الأربعون لجبل موسى” والإبادة الأرمنية
ملده شويكاني
“الإبادة الأرمنية” أبشع جريمة ارتُكبت بحق الإنسانية حينما فظع العثمانيون بقتل المئات من الأرمن الأبرياء بأبشع الطرق وبشتى أنواع التعذيب في الرابع والعشرين من نيسان عام 1915، وغدا هذا اليوم الأسود ذكرى دائمة لشهداء الأرمن وللمطالبة الدولية بالاعتراف بهذه الجريمة. إذ يحيي أجيال الأرمن الناجين من الإبادة في كل دول العالم هذه الذكرى المؤلمة بالصلوات والقداديس والفعاليات، مستحضرين أرواحهم ومؤكدين أنهم أبناء الحياة ولابدّ من أن يستعيدوا مقاطعاتهم المسلوبة من قبل الأتراك.
التوثيق بالرواية والكتب
وكانت هذه الذكرى ملهمة للموسيقيين والسينمائيين والشعراء الذين استقوا مفردات قصائدهم من هول مأساتها، كما وصف الباحثون والكتّاب في مؤلفاتهم الموثقة بشهود عيان مراحل التنكيل والتعذيب بالأرمن وصولاً إلى يوم الإبادة الجماعية واستشهاد ما يقارب المليون ونصف المليون من الشعب الأرمني.
وتعدّ سلسلة الكتب التوثيقية التي ألّفها د. آرشاك بولاديان، السفير الأرمني السابق في سورية، مثالاً على ذلك، منها كتاب “شهادات غربية عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية”.
ولم يقتصر التوثيق على الكتب الملحقة بالصور والشهادات والرسائل والوثائق، إذ صدرت روايات عدة تطرقت في متنها السردي إلى تفاصيل الإبادة أو إلى جزء منها، من أشهرها رواية “الأيام الأربعون لجبل موسى” التي توثق مقاومة الأرمن اللاجئين من القرى إلى جبل موسى، للكاتب فرانز ويرفل، الصادرة عام 1932 باللغة الألمانية، ثم طُبعت مرات عدة وتُرجمت إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والروسية والأرمنية والتركية، وقد طُبع مليون نسخة منها، وأدرجت ضمن سلسلة المليون كتاب العالمية، وقام بترجمتها إلى اللغة العربية عن الإنكليزية المترجم خالد الجبيلي.
بدأ الكاتب بكتابتها عام 1929، حينما كان مقيماً في دمشق، وعاصر الناجين من الإبادة وأصغى إلى مأساتهم كما عاشوها، فقال: “جذبني نضال 5000 شخص من الأرمن في جبل موسى بشدة حتى تمنيت مساعدتهم، ولو بالكتابة عنهم لتصل قصتهم إلى العالم”.
التهجير من القرى
وجبل موسى هو المكان الذي تمركزت فيه مقاومة الأرمن أثناء الإبادة الجماعية بعد أن أمر الأتراك الأهالي بالتهجير القسري بعنف من ست قرى (قرية كبوسية ويوغنولوك وبتياس ووقف وخضر بك وحاجي جبيلي)، فلجؤوا إلى جبل موسى، وقاوموا أربعين يوماً من شهر آب إلى منتصف أيلول، إلى أن تمكنت السفن البريطانية والفرنسية من نقلهم إلى بورسعيد في الوقت الذي شارفت فيه ذخيرتهم ومؤونتهم على النفاد.
مشاعل وكرات نارية
وتوثق هذه الرواية جزءاً من المعارك التي خاضها الأرمن في مقاومتهم مدة أربعين يوماً ببسالة وشجاعة، ولم يتمكّن الأتراك من إيقافهم “أما جنود الأتراك الذين بقوا على سفح الجبل فقد انتابهم الذعر عندما رأوا هذه الأنوار المتوهجة، وأدخل هذا المشهد في روعهم وجود أعداد ضخمة تفوقهم كثيراً، تخرج من كل مكان، كما لو كان الشعب الأرمني كله وجميع القوافل المنتشرة على الطرق في أنحاء تركيا، قد هبّت هبة رجل واحد للانتقام بمشاعل وكرات نارية من حفنة من الغاشمين، ومن الأعمال الوحشية التي تعرضوا لها، وبدأ هؤلاء الجنود يتراكضون إلى أسفل السفح، ولم يتمكن أي ضابط من إيقافهم”.
أوبريت ومسرحية وفيلم
وتضمّنت الرواية في نهايتها أغنية أرمنية شعبية بعنوان “أيام المحنة تذهب وتأتي”:
“لقد ولت أيام النكبات
كأيام الشتاء تأتي وتذهب
إن أحزان الرجال لا تدوم طويلاً
مثل المشترين يأتون ويذهبون”.
كما تحولت إلى أوبريت غنائي ومسرحية وفيلم سينمائي يحمل الاسم ذاته، لينضمّ إلى قائمة الأفلام السينمائية التوثيقية والروائية التي جسدت الإبادة الأرمنية، ومن أشهرها الفيلم العالمي “الوعد” بإنتاج ضخم جداً، والذي عرض عام 2016، في سورية ودول متعددة، وقد ربط بين أحداث الإبادة وغرق قسم من الناجين، وبين الجيل التالي، وتطرق إلى نجاح أجيال الأرمن في بلاد شتى، ومضت أحداثه عبْر قصة حب مؤثرة تغرق فيها البطلة ليبقى البطل شاهداً على المأساة.