الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

رمزية الوردة الأرمنية

غالية خوجة

ما علاقة الورد بالوطن؟

يرتبط الانتماء بشبكة من العناصر، ويرتبط الإنسان بالأرض مثل الجذور، ولذلك.. شكّلت الوردة رمزية وطنية، وما بين الياسمين والجوري تنتشر رائحة رمزنا لسوريتنا الحبيبة، وكذلك اختار الأرمن “وردة (كي لا ننسى) البنفسجية” لشهدائهم الذين راحوا ضحية المجازر العثمانية والتي حدثت ضمن إبادة جماعية ممنهجة في 24 نيسان عام 1915.

ونتيجة ذلك، انتشر الشعب الأرمني في أصقاع الأرض، ومنها سورية التي أصبحوا مواطنين فيها، وتشكّلوا مع لوحتها الفسيفسائية في نسيج واحد، واستشهدوا أيضاً من أجلها لأنها الوطن، لكنهم لا ينسون معاناة أجدادهم المزهرة مع الوردة البنفسجية كرمز وطني ينثرونه في المقابر، كلما مرّت هذه الذكرى السوداء، مؤكدين على حقهم، مطالبين العالم بعدالة قضيتهم، غير ناسين ذاك اليوم الذي مرّ عليه حتى الآن 108 سنوات، واثقين بدماء أجدادهم وبالمستقبل على حدّ سواء.

وهذه الوردة بغرابتها الطبيعية تسافر بنا من خلال رمزيتها إلى الماضي والحاضر والمستقبل، وتتضمن أكثر من نص قابل للقراءة من خلال دلالاتها وعناصرها البيئية الطبيعية، فلون تويجاتها البنفسجي الغامق يدلّ على المستقبل والخلود، والبنفسجي الفاتح يدلّ على الحاضر والوحدة وحق الشعب الأرمني أينما كان، بينما تشير تويجاتها الخمس إلى القارات الخمس التي لجأ إليها الأرمن بعدما هربوا من المذابح العثمانية، كما تختزل حيوية اللون الأصفر تلك الأشعة التي لا تنطفئ، ومنها شعلة الحياة والحق والعدالة، مقابل الدائرة السوداء الصغيرة الدالّة على الظلم والقتل والجرائم والإبادة والوحشية.

وتستمر الذاكرة بالتفتّح مع المشاعل، وتستمر الورود في الحضور في كل مكان، وتتخذ هذه الذاكرة شكلاً معمارياً خاصاً في أرمينيا، خصوصاً في العاصمة يريفان الملقبة بالعاصمة الوردية، ليس بسبب حضور الوردة الوطنية فقط، بل لأن مبانيها تبنى من حجارة “الدوف الوردي” وتزين بها أيضاً، لتبدو وردة عمرانية، وهو ما أسّسه مهندسها ومصمّمها الأول الكسندر طامانيان، وله تمثال فيها أسوة بتماثيل العلماء والأدباء والعظماء والأبطال والأم أرمينيا الدال على القوة والعطاء.

وتعادل وردة “الأنموروك” البنفسجية زهرة اللوتس الروحانية إلى حدّ ما، وتمتد إلى رمزية زهر الرمان – الجلنار، لتغازل الكتابات الأرمنية وترجماتها في كافة المجالات، ومختلف الأزمنة، ومنهم الأدباء المعاصرون خصوصاً في حلب.

وإذا انتقلنا إلى قصائد مختلفة كتبها شعراء أرمن في فترات زمنية متفاوتة، نجد كيف تلامس كلماتهم الإنسان والكون في آنٍ معاً، وتتلون بالذاكرة والنسيان، بأمواج البحر والمراكب، بالجبال والحزن والحياة والموت واليوميات والموروث الفلكلوري؛ وهذا ما تعكسه، على سبيل المثال، تجربة الشاعر هوفهانيس تومانيان المولود عام 1869، والمتوفى عام 1923، والذي أصدر أول ديوان بعنوان “أشعار” في موسكو عام 1890، واستوحيت من قصائده الملحمية أوبرا “أنوش” لأرمين ديكرانيان، و”ألماست” لالكسندر سبنداريان.

وأهم ما تتميّز به قصائد تومانيان هو ارتكازها على الأناشيد والتراتيل والقصص الملحمية التي كان ينشدها مع آلة “التشونكور” الموسيقية الوترية الشعبية، وما تركه في ذاكرة شعبه والعالم، ولاسيما أنه عاصر المجازر العثمانية، فكتب الكثير من القصائد، منها “صلاة الجنازة” و”إلى وطني”، المركزتين على المعاناة ببساطة فنية وسردية شعرية موزونة تعتمد على الحدث العميق وحكايته المكانية والزمانية، كما تعتمد على الثقة بالمستقبل، وهذا ما توضحه أبياته الجبلية: “الطريق مظلم، الطريق حالك، قاتم هو الليل الطويل، ليل هائل لا نهاية له، نحن صاعدون إلى القمم، في الجبال الوعرة، جبال أرمينيا”.