مجلة البعث الأسبوعية

“هذي الدّنيا ما أحلاها”.. قصيدة طفلية مغنّاة في زمن القحط

نجوى صليبه

“تتطلّب الكتابة للطّفل اتّسام الكاتب بعدد من الميزات والقدرات الخاصّة التي تمكّنه من مخاطبة عقله وقلبه، والولوج إلى نفسه، وتحريك انفعالاته، وتوجيه سلوكاته التّوجيه الصّحيح، فالأديب صانع رسالة، ولاسيّما حين يتوجّه في أدبه للطّفل، هذا الكائن السّاحر المتميّز” يقول الشّاعر جمال أبو سمرة ويضيف: هناك كثير من الضّوابط التي يجب الالتزام فيها، وغير قليل من الأهداف التي يجب عليه تحقيقها دفعةً واحدةً، فالمطلوب إثراء ثقافة الطّفل اللغويّة، وإغناء معجمه اللغوي، والسّمو بذائقته الأدبيّة، وإثارة خيالاته وانفعالاته، وتوسيع آفاقه وعوالمه، وتربيته التّربية الوطنية والجماليّة اللائقة وإعداده للحياة ليكون فيها فاعلاً فيها قادراً على تحدّي صعوبات الحياة، وحلّ مشكلاته بنفسه، فأديب الطّفل يعيد ترتيب عوالم الطّفل، ويشكّلها من جديد، فضلاً عن تقديم محتوى هادف، يأخذ بيد الطّفل إلى عالم الحق والخير والجمال والمُثل، ولا ننسى أنّ الأدب هو الحامل الرّئيس للتّربية في هذه المرحلة، بناءً عليه فإنّ الأديب مُطالبٌ دائماً أن يكون مثقّفاً بعلم نفس الطّفل، مدركاً أنّ الطفولة مراحل ولكلّ مرحلةٍ خصوصيّتها، وما يلائمها من معجم لغوي، وما يستهويها من نوع أدبيّ ضمن الجنس الأدبيّ الواحد، وهنا تكمن خطورة ما يمكن تقديمه، وقدرته على جذب انتباه الطفل، والتأثير فيه معاً.

ويوضّح أبو سمرة: ولا تكمن المسألة في جعل الطّفل متلقياً سلبياً ينفعل بما يسمع ويقرأ ويرى، بل على أديب الطّفل أن يجعله أمام تحدٍّ يُدرك من خلاله أنّه مطالبٌ أن يشاركَ في صنع القصّة، أو كتابة النّشيد، والتّفاعل مع النّصّ الذي يقرؤه وملء فراغاته، أي يجب أن يكون النّصّ الموجّه للطّفل نصّاً مفتوحاً على الاحتمالات التي تتطلّب طفلاً ذكيّاً لمّاحاً قادراً على استكناهها، وقيادتها إلى حيث تكون في الصّورة الأكمل والأكثر إمتاعاً وجذباً.

ولعلّ القصيدة المكتوبة للّطفل هي ما يرسخ أكثر في ذهن الطّفل، ولاسيّما تلك التي يسهل غناؤها ولو من دون لحن، لكن هل كل قصيدة تكتب للطّفل قابلة لأن تكون قصيدة مغناة؟ يجيب أبو سمرة: كلّ نشيد أو قصيدة تُكتب للطّفل، يجب أن تتمتّع بالسّلاسة والعذوبة، وأن تمتلك من الطّواعية اللغويّة ألفاظاً وتراكيبَ وقوافيَ ما يجعلها قابلةً للتّرنّم بها، والغناءِ بصورة أو بأخرى، فالطّفل ينشأ منذ طفولته على الهدهدة وأغاني الأمهات التي تداعبه بها، وبوساطتها يغفو، حتّى الأمم البدائيّة لم تغفل هذا الجانب، وفي أدبنا القديم وأدب ما قبل الإسلام نجد أشعاراً للتّرقيص والتّنويم وهي موجّهة للطّفل… لذلك لا نجد طفلاً لا يترنّم بالشّعر، ولا يردّد الأناشيد، وحتّى الأناشيد المدرسيّة لا تُقدّم للطّفل إلّا في قالب موسيقيّ جميل، من هنا لا بدّ من أن نتيقّن أنّ شعر الطّفل خاصّة صنو الموسيقا، وتوءمه، وعلى الشّاعر النّاجح أن يدرك هذا تماماً وهو يكتب للطّفل، بل يغنّي له، ولذلك نحن نسمّي الشّعر الموجّه للطّفل في المراحل الأولى بالنّشيد، والاسم مستمدّ من الإنشاد والتّرنّم والغناء، ويجب أن ندرك أنّ هذا الغناء للنّصّ يُكسب الطّفل عادات إيجابيّة مثل الاندماج مع رفاقه المغنين ضمن المجموعة، وينمّي ذائقته الفنيّة والجماليّة، فضلاً عن السموّ بانفعالاته وخيالاته ومن ثم بسلوكاته…

“هذي الدّنيا ما أحلاها!” آخر قصيدة مغنّاة للشّاعر أبو سمرة، وهي ليست الأولى فقبلها الكثير، لكن بماذا يشعر الشّاعر عندما يسمع قصيدته بصوت طفل؟ يبيّن أبو سمرة: في الحقيقة نشيد “هذي الدّنيا ما أحلاها!” ليس نشيدي الأوّل الذي يُغنّى، أو يغنّيه طفل، ففي رصيدي ما يفوق الـ600 نشيد وقصيدة موجّهة للطّفل، لُحّنت وغُنّيت، وهي في المجالاتٍ التّربويّة والحياتيّة والسّلوكيّة والوطنيّة والإنسانيّة والتّنمية الذّاتيّة، وغير هذا كثير من الموضوعات التي تتشعّب عنها، لكن مع كلّ نشيد لي يُغنّى أحسّ بالغبطة والسّمو، فليس أجمل من أن يرى الشّاعر كلماته بل أحاسيسه تنتقل من طفل إلى آخر، وهو يتمثّلها، وينفعل بها، ويتماهى معها، ومن هنا تتعالى درجة المسؤولية، فينتج لديّ شعور بالتحدّي في أن أكتب في كلّ نشيد ما هو مختلف عن الآخر، فلا أقع في فخّ النّمطيّة والتّكرار إيقاعاً ولغةً ومعانيَ، ولاسيّما أنّنا مطالبون، اليوم، في أن نعيد بناء الإنسان بناءً سويّاً بعد هذه الحرب التي أتت على كلّ شيء، فكان لابدّ من إعادة تمكين علاقة الإنسان ولا سيّما الطّفل بكلّ من مفهومي الحبّ والسّلام بصورتيهما المتعدّدة والواسعة، وأن نزيح عن كاهل الطّفل ما يفوق طاقته على التّحمّل، فينال من ضحكته وبراءته، ويسلبه فطرته وأحلامه، مضيفاً: الطّفلة لامار المثنى التي غنّت النّشيد موهوبة، وغنّت فأجادت، وأمتعت.

وأمّا لامار فطفلة تبلغ من العمر 10 سنوات، وبدأت الغناء في عمر الخمس سنوات، حيث كانت تشارك في حفلات الرّوضة والمدارس، وتميّزت بعفويتها، وهي طالبة مجتهدة ودائماً في المراكز الأولى في تحصيلها الدّارسي، لذا فإنّ لغتها العربية الفصيحة جيّدة ومخارج حروفها صحيحة، وهذا ما جعل أداءها للأغنية سليماً، بالإضافة إلى أنّها تستمتع وهي تستمع لأغاني الأطفال وتحفظها بسهولة وتغنيها لرفاقها في المدرسة، كما أنّها تدرّبت على يد المدرّس كرم الشّاطر الذي سهّل عليها الحفظ، لكن لماذا اختار هذه القصيدة بالذّات لتلحينها؟ يوضّح: اخترتها لأنّها بسيطة وأبياتها قليلة، وفي الوقت ذاته قوية بمضمونها ومعانيها وصورها الرّائعة، فهي تعرّف ببعض حقوق الطّفل كالعيش بسلام واللعب وممارسة هواياته والاستمتاع بالطّبيعية الجميلة، وستشارك هذه القصيدة في مهرجان الطّفل السّوري الذي تقيمه منظمة الطّلائع أواخر الشّهر الحالي.

لكن ماهي ميزات اللحن الموجّه للطّفل؟ يجيب الشّاطر: يجب أن يكون اللحن بسيطاً غير معقّد وضمن مساحة صوتية يستطيع الطّفل غناءها، وفرحاً يحاكي إحساسه، وسريع الإيقاع بعض الشيء  لكي يشعر الطّفل بالحيوية والنّشاط لا الملل، كما يجب أن يكون هناك تنويع بين مقاطعه ويحوي الكثير من الجمل الموسيقية الجميلة.

المتابع للأنشطة الفنّية والثّقافية والأدبية الخاصّة بالطّفل يلاحظ أنّ الكثير من الأطفال يؤدّون أغنيات للكبار، وهذا مردّه إلى قلّة إنتاج الأغاني الطّفلية إن لم نقل ندرتها، وبالمختصر نحن نعيش حالة قحط في هذا المجال، والسّؤال الذي نعيد طرحه في هذه الظّروف هو: هل العمل الغنائي الطّفلي عمل خاسر مادّيا ومعنوياً؟  يبيّن الشّاطر: عمل خاسر ماديا؟ جميع أعمالي خاسرة مادياً، ولا أعير هذا الأمر أي اهتمام، فأنا أعمل واجبي تجاه أطفالنا، وأحاول تقديم ما أستطيع تقديمه، ولي الفخر والاعتزاز في ذلك، فأنا أكبر بهم وأعدّ نفسي رابحاً جدّاً من النّاحية المعنوية.