“الرواية الريفية” رصد لواقع الريف وقضاياه
سلوى عباس
ربما كان مصطلح “الرواية الريفية” غريباً ويثير نقاشاً واضحاً واحتجاجاً كبيراً بين النقاد الذي يشيرون إلى عدم دقته ومحدودية دلالته، إلا أن الأدب العالمي في الربع الأخير من القرن العشرين راح يتوجه نحو الريف ليجعل منه مادته المرجعية الأساسية، وأخذت الرواية الريفية تحتل مكانة ضمن أشكال الرواية، بعد أن أخذ سكان ريفنا يتوجهون نحو المدينة ليتمدنوا وليخسروا الوشائج التي تربطهم بريفهم وبطبيعته، وليفقد الريف-في الآن ذاته- كثيراً من نكهته وتفرده، فتأتي الرواية الريفية لتذكرنا بهذا التفرد الذي فقدناه، ولتعيد رسم ملحمة حياة الفلاح السوري واغترابه ومعاناته في الحربين العالميتين وما قبلهما ومابعدهما والتمخضات التي عاشها والتحولات التي طرأت عليه، وتطعّم ذلك كله بالتراث الشعبي والعادات والتقاليد ومشاهد الاحتفالات في الأعياد والمواسم والأعراس، إنها الرواية التي تقوم بنيتها على تلاحم شاعري بين الأرض والإنسان والحدث من خلال نقل للواقع ينبني عليه الاحتفاء به.
إن من أهم مهام الرواية الريفية أن تستوعب الواقع الذي يشكل مرجعيتها استيعاباً معرفياً وجمالياً بما يتمثل فيه هذا الواقع من مكان وزمان وإنسان، واختيار الفضاء الروائي في الرواية الريفية يتمثل في مكان مفتوح واسع الأطراف واختيار هذا الفضاء يرتبط بأزمنة روائية متعددة ومختلفة، وبمستويات سردية تختلف تبعاً لأنماط الزمن الموجودة في رحم الرواية، إنها مستويات الواقع المعالج بما يرتبط به من علاقة باللغة وعلاقة بالمعرفة وعلاقة بالخيال.
نضجت الرواية الريفية السورية في الربع الأخير من القرن العشرين، ولعل سبب هذا النضوج يعود إلى تصوير الريف وما يمور فيه كان يحتاج إلى حدوث هزات اجتماعية وسياسية عميقة، وكانت هزيمة حزيران 1967 أول تلك الهزات العنيفة، لكن ذلك لايعني أن الرواية السورية لم تقم بتصوير الريف، إذ أن جميع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي جرت في سورية كانت ذات صلة وثيقة بهذا الريف، لكن المأخذ الرئيسي على تصوير روايات ماقبل حزيران 1967 للريف نزوعها إلى الرومانسية.
وتعد رواية “الفهد” لحيدر حيدر معلماً هاماً ورائداً في نشوء الرواية الريفية وتطورها إلى جانب رواية أخرى رائدة في هذا المجال هي رواية “ملح الأرض” لصلاح دهني. وكذلك تجربة الكاتب محمد إبراهيم العلي الروائية، الذي يحتل الريف والفلاح الصدارة في هذا الإنتاج، ومنهما يمنح صوراً من الماضي القريب والبعيد، وهي صور قائمة أساساً في ذاكرته، إنه عالم المطاردين والهاربين والمتمردين في مجتمع يتمرغ بأغلال الاستغلال والاستبداد، وهي تجربة تتميز بخصوصيتها من حيث الموضوع والشمولية والتاريخية، فقد رافقت أعماله أحقاباً زمنية متعددة لاحقت تطوراته وتحولاته منذ أواخر الحكم العثماني للبلاد مروراً بالاحتلال الفرنسي إلى الاستقلال ومابعده، وكان العلي ينطلق دائماً من حدث عاصف يهز المجتمع القروي أو ينتهي إليه، متتبعاً الآثار التي تخلفها الأحداث المتلاحقة عن الحياة والشخصيات، وعلى واقعها وآمالها وأحلامها.
إنها تجربة تكاد تتصف بالتوثيق والسيرة الذاتية، كما أن المقولات الفكرية والمفاهيم الاجتماعية والطبقية التي يؤمن بها الكاتب تظهر بشكلها المباشر في السرد الروائي إلى جانب تاريخ غني بالأحداث والتحولات السياسية، وهكذا يجد القارئ نفسه أمام خليط عجيب من الأفكار والنوازع والأفعال والغرائب التي تتم عبرها النقلات الروائية الفجائية.
كذلك طمح يوسف المحمود في روايته “مفترق المطر” إلى أن يجعل من تكامل السرد والوصف والتحليل رسماً لواقع حياة ريفية لتنتج رواية ريفية تقوم على صياغة البوح الذاتي والتداعيات الحرة من خلال ارتباط تاريخي بالتقاليد وحب العمل والكرامة، لتقدم لنا ماضياً لاتبدو من خلاله صور المستقبل إلا بشكل سديمي باهت، لذلك كان المكان الروائي (الريف) وعلاقة المبدع به إيجابياً أو سلبياً تشكل العمود الفقري في العملية الإبداعية التي تنتج ما سميناه “رواية ريفية” وهي علاقة تتكون وتتداخل مع علاقات مكانية أخرى وفقاً لمدى وعي مبدعها وانعكاسه في وعي الشخصيات التي يصورها ووظيفتها في بنية الرواية.