الحرب الألمانية ضد روسيا
هيفاء علي
تفيد المعلومات بأن من بين الدبابات الـ293 التي أرسلتها مؤخراً الحكومات الغربية لأوكرانيا، هناك 196 دبابة قتال من ألمانيا، بالإضافة إلى دبابات ألمانية الصنع من دول أخرى مصرّح لها بالتصدير من قبل الحكومة الألمانية.
في هذا السياق، يتساءل المحلّلون الألمان كيف يمكن لحكومة ألمانيا أن تشنّ حرباً جديدة على روسيا في خط المواجهة دون أن تتعرّض للهجوم أو حتى التهديد، وذلك بعد 80 عاماً من حرب الإبادة ضد شعوب الاتحاد السوفييتي التي تمّ خوضها بوحشية شديدة، وبعد 80 عاماً من معارك مثل ستالينغراد وكورسك؟.
يتشاطر الكثيرون الرأي القائل بأن الحرب الغربية ضد روسيا تشنّها الولايات المتحدة، وأن الدول الأوروبية ليست أكثر من مجرد تابعين يتعرضون لضغوط كثيفة من قبل سيدهم الأمريكي، وأنهم يشاركون في هذه الحرب ضد مصالحهم الخاصة. ولكن يرى المحللون أن وجهة النظر هذه يجب وضعها في منظورها الصحيح، موضحين أنه بالنسبة لدول وسط أوروبا مثل بولندا ودول البلطيق فإن ردّ الفعل المعادي لروسيا واضح، لأن حكوماتهم الحالية تتبع طريق الحرب. وفي هذا السياق، يطرح السؤال التالي: هل انتقلت الحكومة الألمانية إلى تصعيد سياسات القوى العظمى الألمانية وبالتالي إلى الحرب ضد مصالحها الخاصة؟. هل سيكون هذا هو “تغيير العصر” الشهير، وهي السياسة التي تشكلت خطوة بخطوة منذ “إعادة توحيد” ألمانيا مع “جمهورية برلين”، في سنوات الجمهورية الفيدرالية السابقة؟.
على ما يبدو أن ألمانيا تمسك “بقطع الخيار الأول” في يوغوسلافيا، وهي التي تسبّبت في الأزمة الاقتصادية والسياسية منذ منتصف الثمانينيات، ولها دور رائد في تفتيت أوصال البلاد، لأسباب عرقية وسياسية واقتصادية، ودعم الاستخبارات الألمانية للانفصاليين في كوسوفو. ومن ثم عملت على عسكرة كوسوفو، وبالتالي انتقلت خطوة بخطوة من الدفاع عن البلاد إلى الاستعداد لشنّ حروب عدوانية تتعارض مع القانون الدولي، وخاصةً إذا ما نظرنا إلى الدور الكبير الذي لعبته ليس فقط في توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً، ولكن أيضاً في الناتو، إضافة الى دورها الرائد فيما يُسمّى بالاتحاد الأوروبي “الشراكة الشرقية”، وبالتالي في الوصول إلى الدول الحدودية لروسيا مع استبعاد روسيا بشكل متعمد، كذلك دورها في التغيير غير الدستوري للحكومة في أوكرانيا في شباط 2014، واللعبة الألمانية الزائفة مع اتفاقيات مينسك، ما يدلّ على أنه لا توجد أي محاولة جادة لإيجاد حلّ سلمي في أوكرانيا، بل هناك الاستعدادات للحرب ضد روسيا.
في الواقع، إن محاولات إقناع الحكومة الألمانية بالحجج لم تؤتِ ثمارها، حيث تذهب هذه الحجج في الغالب في الاتجاه الذي تشنّ فيه روسيا حرباً للدفاع عن الروس وروسيا ضد أوكرانيا التي أصبحت عدوانية، وقبل كل شيء ضد الغرب العدواني، وأن المسؤولين في أوكرانيا يعدون العدّة خطوة بخطوة -حتى قبل 24 شباط 2024- لإنشاء ديكتاتورية متطرفة لا علاقة لها بـ”الحرية” و”سيادة القانون” و”الديمقراطية”، لأن أمراء الحرب لا يعيشون فقط في واشنطن، فهناك أيضاً البعض منهم يعيش في برلين.
لقد أظهرت الحرب العالمية الثانية بالفعل أن الأنظمة الفاشية تستخدم لشنّ الحروب، فلم تكن مناهضة هتلر للبلشفية شأناً ألمانياً فقط، وها هو التاريخ يعيد نفسه. لقد نجحت السياسة الألمانية هذه المرة في تجنّب حرب على جبهتين كما كانت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث تمكنت من إقناع جزء كبير من السكان الألمان، بمساعدة المعلومات المضللة والدعاية الضخمة، بأنها تساعد بلداً صغيراً يتعرّض للهجوم من دون سبب و”بدون استفزاز”، ويقاتل من أجل أي شيء آخر غير الحياة في الحرية والديمقراطية لمواطنيها المسالمين.
إن مسألة دور ألمانيا في أوروبا لها أهمية قصوى، لجهة الادعاء الذي أثير في كثير من الأحيان بأن أوروبا يجب أن تنفصل عن الولايات المتحدة، وتتبع مساراً مستقلاً في السياسة العالمية، لا يمكن أن يكون منطقياً إلا إذا تمّ تعريف هذا المسار المستقل على أنه طريق القانون الدولي، والحقوق المتساوية لجميع الدول والشعوب. لكن في جميع الاحتمالات، يجب أن تخضع الظروف الألمانية لعملية تحول جذريّ، وإلا فإن أوروبا، حتى تلك التي تخلّصت من إملاءات الولايات المتحدة، لن تتمكن أبداً من تحويل نفسها إلى داعية للسلام، وهو الدور الذي يناسبها بشكل أفضل من دور دعاة الحرب الذي تلعبه حالياً.